سمير عطا الله
أواخر الخمسينات صدرت في بيروت ترجمة كتاب «الخارجي» أو «اللامنتمي» لبريطاني في الرابعة والعشرين من العمر يدعى كولن ولسون. كان ولسون النسخة البريطانية من الفكر الوجودي الذي عمّ فرنسا وأميركا في تلك المرحلة، بُعيد الحرب العالمية الثانية. بلغت موجة ولسون عند المثقفين العرب نوعًا من النشوة الفكرية. وانتمى «اللامنتمون» منهم إلى هذا المفكر الجديد الذي لخّص لقرّائه مفترقًا جديدًا في الأدب العالمي، مغايرًا للأدب الكلاسيكي والرومانسي الذي عرفه من قبل.
مرحلة بأكملها عُرفت بعنوان اللا انتماء كرد وجداني على الصراعات القومية والعرقية التي أدخلت العالم في حربين عالميتين. ولم يقع سحر ولسون على العرب وحدهم، بل إن آلاف النسخ من «اللامنتمي» وزِّعت في أنحاء العالم وتُرجمت إلى معظم لغاته.
ما إن هدأت موجة «اللامنتمي» حتى اختفى اسم كولن ولسون من جوائز الفكر والثقافة. أو هكذا خُيّل إلينا على الأقل، وإلى حد بعيد كان ذلك صحيحًا في موطنه بريطانيا، كما في أنحاء العالم الذي تدافع لقراءة فلسفة اللا انتماء. الحقيقة أن كولن ولسون استمر في الكتابة بحيث أنتج نحو مائة كتاب حظيت جميعها بالنجاح الذي لقيه كتابه الأول، الذي بدا وكأنه كتابه الأخير.
تسرد سيرة جديدة لِولسون بقلم الكاتب الأميركي غاري لاشْمَن، فصول حياة في التشرد والأعمال الصغيرة والنوم في الحدائق. والزواج الخاطئ والطلاق القاصي والبحث الجدّي حول شيء واحد: الكتابة. يروي لاشمن الذي قام بزيارة ولسون مرات كثيرة قبل وفاته عام 2013، أن المفكر البريطاني عاش حياته بين 30 ألف كتاب. ويقول إنه لم يرَ في حياته هذا الكمّ من الكتب إلا في المكتبات الوطنية. وقد اختار حياة العزلة مع تلك المؤلفات في إحدى قرى دآفن الصغيرة، ولم يكن يخرج منها إلا لجولة محاضرات في جامعة أميركا، أو لحضور مؤتمرات فلسفية كان نجمها الأول.
بالمقارنة مع سيرة الكتّاب «الوجوديين»، تبدو حياة كولن ولسون الأكثر بوهيمية وعذابًا ومَلَلاً. من حاجب في مصنع للفولاذ، إلى حاجب في مختبر للأدوية، إلى ضيف في غرفة يطرد منها في اليوم التالي، إلى سلسلة من الهروب من أصحاب الغرف التي لا يستطيع أن يدفع إيجارها. طبعًا، تغير الوضع المادي بعد صدور «اللامنتمي»، وبروزه كأحد ألمع الكتّاب الغربيين آنذاك. ورغم سوء حظ الكتاب في العالم العربي، فقد لقي «اللامنتمي»، حتى عندنا، انتشارًا لا سابق له. وكان ذلك في مرحلة لم تتكرر من انفتاح المثقفين العرب على الإنتاج الأدبي العالمي، كانت القاهرة وبغداد وبيروت تستقبل آخر التيارات الفكرية وكأنها جزء منها. يبدو كولن ولسون اليوم صورة من مرحلة أدبية مضت، عندنا كما في العالم أجمع. ويرفع علم الفلسفة الغربية الآن مُدَّعون من نوع هنري ليفي، الذي يُمضي أوقات الفراغ دليلاً للقوات العسكرية في حملاتها.
التعليقات