&&يوسف بن عبد العزيز أبا الخيل

&&التكفير، سواء صدر من فرد أو من جماعة، إنما يدل على قلة العلم أو قلة الورع، أو كليهما وهو الأقرب. فلقد كان السلف الصالح أبعد ما يكونون عن التكفير، بل إنهم يحتالون لإيجاد العذر لمن صدرت منه أقوال أو تأويلات كفرية.

&قد يستفز عنوان هذا المقال من أُشْربُوا في قلوبهم حب تكفير المختلفين معهم، وطلب تنفيذ حد الردة فيهم، لكن مضمونه صحيح إذا اسْتُقْرِئت مقاصد الشريعة في حماية بيضة المجتمع وأمنه وأمانه.

&

وقد يعترض معترض بالقول: ماذا نصنع بما احتوت عليه مدوناتنا العقدية من تكفير مقولات وأشخاص؟&

والحق أننا مأمورون باتباع منهج القرآن الكريم، وما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولسنا متعبدين بأقوال واجتهادات واستنباطات الرجال مهما علت مكانتهم، فالرسول صلى الله عليه وسلم لم يكن يكفر أحدا من المنافقين، ممن يتظاهرون بالإسلام، حتى ينزل عليه الوحي بذلك، كما أن الصحابة رضي الله عنهم لم يكونوا يكفرون أحدا حتى يخبرهم بذلك الرسول صلى الله عليه وسلم.&

كما قد يعترض معترض آخر بالقول: إننا نكفر مقولات ولا نكفر معينين. إلا أن الراصد لخطابات التكفير اليوم، من فتاوى وهاشتاقات وبيانات، سيتبين له أنها تتقصد تكفير معينين. يكفي مثلا أن نتأمل طريقة صياغة بعض الفتاوى التكفيرية لنتبين أنها تنصرف حتما إلى معينين مقصودين ومحددين سلفا، وذلك كأن تصاغ الفتوى على هيئة سؤال مضمونه "ما قولكم حفظكم الله فيما قاله فلان بن فلان، (يضعون الاسم الثلاثي أو حتى الرباعي)، في مقاله أو في كتابه، (يضعون عنوان المقالة أو اسم الكتاب أو الرواية) من أن كذا وكذا، أفتونا مأجورين"؟

&وبعد أن يحشد المستفتي أدلة معينة يؤوّلها إلى ما يتوافق وإرادة التكفير المقصودة سلفا، يختم بقوله: "فهذا القول كفر، وقائله كافر مرتد عن الإسلام يجب على الحاكم أن يستتيبه فإن تاب ورجع وإلا قُتل مرتدا!".

&فإن لم يكن هذا التكفير لمعين، فكيف يكون تكفير الأعيان؟&

وتتأكد إرادة تكفير المعين عند هؤلاء مع امتطاء صهوة منتديات التواصل الاجتماعي بافتتاح هاشتاقات، أو المشاركة فيها تحت عنوان (حاكوا فلانا أو فلانا، أو أن فلانا يسب الله أو الرسول، أو ينكر شيئا من القرآن.. إلخ).

&

فهذا كله تكفير لمعينين، وإن زعم متولو كبره أنه تكفير لمقولات، بل يمكن القول إن معظم، إن لم يكن كل خطابات التكفير التي يصدرها، أو يشارك فيها أناس معروفون، من وعاظ وأساتذة جامعات مردوا على التكفير، على اختلاف صياغاتها، إنما تتقصد معينين، ولولا ذلك لما أصدروها، أو شاركوا فيها.

&ولما كان المسلمون مجمعين على أنه لا يجوز تكفير المعين إلا بعد أن تتحقق فيه شروط التكفير وتنتفي عنه موانعه، وأنه لا يمكن التحقق من توافر الشروط وانتفاء الموانع إلا بعد أن تقام عليه الحجة، بسماع أقواله وتأويلاته وتصحيح شبهه، فإن إقامة هذه الحجة عليه تتضمن نوعا من الإجبار الذي يتطلب مثوله أمام قاض أو فقيه أو جهة تحقيق ما، ليُتحقق من أقواله "الكفرية"، لإزالة شبهته وتصحيح تأويلاته.

&

والإجبار يمثل أحد مظاهر العنف الذي تحتكره الدولة كحق سيادي لا ينازعها فيه أحد، وهي من ثم المخولة باستخدامه، أعني العنف، للمصلحة العامة.

&ولما كان هذا الحق للدولة قديما قدم الدولة نفسها، ولما كانت الشرائع السماوية قد أتت بتأكيده، فلقد أصبح من أهم أركان الدولة الحديثة، إذ نجد ذلك واضحا في كتابات كبار علماء الاجتماع الذين دافعوا عن مشروعية الدولة في استخدام العنف بصفته حقاً حصرياً مميزاً لها؛ حيث لا يحق لأي فرد أو جماعة أو جهة أن تمارس العنف ضد أفراد المجتمع، أو تجبرهم على ممارسة شيء ما، أو المثول أمام جهة ما، إلا بتفويض منها. وفي هذا المعنى يقول عالم الاجتماع الشهير: ماكس فيبر في كتابه (العالم والسياسي): "لو وُجِدتْ بنيات اجتماعية لا تعرف العنف لاختفى مفهوم الدولة".

&

وعندما نكون أمام حالة فرد غشي أقوالا يغلب عليها أنها كفرية، أو حتى على افتراض أننا متأكدون أنها أقوال كفرية، فإننا لا نستطيع، قطعا وبلا خلاف، تكفيره إلا بإزالة شبهه وتصحيح تأويلاته التي بنى عليها أقواله، فإن وافق على المثول أمام من نقترحه مثلا فبها، لكن إن رفض، وهو المتوقع، فليس للمجتمع، أفرادا كانوا أم جماعات أم مؤسسات، أن يجبروه، فهل يستطيع أحد أن يقول حينها: طالما رفض المثول أمام من اقترحناه لتفنيد شبهه فهو كافر؟ هذا ما لا يمكن إطلاقا، ذلك أن انتفاء الموانع كلها، ومن ضمنها مانعا الشبهة والتأويل، شرط أساسي لتكفير المعين.

&

ولنا في الصحابة الكرام أسوة حسنة، لما لم يبادروا إلى تكفير أو تضليل الصحابي البدري: قدامة بن مظعون رضي الله عنه عندما (استحل) شُرْبَ الخمر، تأولاً منه لقول الله تعالى: "ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا إذا ما اتقوا وآمنوا وعملوا الصالحات". ذلك أنه لما كانت إزالة الشبهة شرطا ضروريا لمعرفة موقفه، ولما كانت هذه الإزالة بصفتها انتفاء لمانع تكفيري منوطة بالإمام، فلقد تواتر الخبر عنهم أنهم لم يتنادوا إلى تكفيره، أو إلى تطبيق حد الردة عليه بحجة أنه (حلل) ما هو مقطوع بحرمته من الدين بالضرورة، أو لأنه أتى ناقضاً من نواقض الإسلام، بل ناقشوه وبينوا له معنى وسبب نزول الآية، وبالجملة: أقاموا عليه الحجة، بعلم وموافقة عمر بن الخطاب رضي الله عنه بصفته إمام المسلمين.

&ويتأكد (حصر) إصدار حكم التكفير بالدولة، أو بمن تفوضه، إذا ماعلمنا أن التكفير يستتبعه إقامة حد الردة على من ثبت كفره، وعلى عدم جواز وراثة ورثته لماله، وعلى عدم جواز وراثته هو من مورثه. فكل هذه الأمور تدخل في حكم المسائل التي تنظم بنوع من الإجبار الذي تحتكره الدولة وحدها.

&

إن التكفير، سواء صدر من فرد أو من جماعة، إنما يدل على قلة العلم أو قلة الورع، أو كليهما وهو الأقرب. فلقد كان السلف الصالح أبعد ما يكونون عن التكفير، بل إنهم يحتالون لإيجاد العذر لمن صدرت منه أقوال أو تأويلات كفرية. فلقد كان شريح القاضي رحمه الله ينفي صفة (العجب) عن الله تعالى، رغم ثبوتها في الكتاب والسنة، كما في قوله صلى الله عليه وسلم "يعجب ربك من شاب ليست له صبوة"، وقوله عليه الصلاة والسلام "عجب الله من قوم يدخلون الجنة في السلاسل"، وقوله عليه السلام: "يعجب ربكم من راعي غنم في رأس شظية بجبل يؤذن فيقول الله عز وجل: انظروا إلى عبدي هذا يؤذن ويقيم الصلاة يخاف مني، فقد غفرت له"، وقوله: "عجب ربنا من قنوط عباده وقرب خيره، ينظر إليكم آزلين قنطين، فيظل يضحك يعلم أن فرجكم قريب".&

ولهذا فقد كان، أعني شريحا، ينكر قراءة الآية (بل عجبتُ ويسخرون) بضم التاء، رغم أن هذه القراءة، كما يقول البغوي في تفسيره، قراءة ابن مسعود وابن عباس. وبذلك يكون القاضي شريح قد أنكر، كما يقول شيخ الإسلام ابن تيمية، قراءة ثابتة، وأنكر صفة دل عليها الكتاب والسنة، ومع ذلك فقد اتفقت الأمة على أنه إمام من الأئمة، ناهيك عن أن يتنطح أحد حينها لتكفيره، أو لطلب استتابته.

&

بل إن إبراهيم النخعي لمَّا بلغه إنكار شريح القاضي لقراءة (بل عجبتُ)، لم يبادر إلى تكفيره أو زندقته، كما لم يدع الإمام إلى استتابته فإن تاب وإلا قتله مرتدا، كما هي عادة بعض الوعاظ وقليلي العلم والورع في زماننا، وإنما علق بقوله: "إنما شريح شاعر يعجبه علمه، كان عبدالله بن مسعود أعلم منه، وكان يقرأ (بل عجبتُ)".

&

وأعجب من ذلك ما ورد عن بعض السلف من إنكارهم لقراءة بعض الآيات في المصحف، مثل إنكار بعضهم قراءة (أفلم ييأس الذين آمنوا)، وقال إنما هي (أو لم يتبين الذين آمنوا)، وكإنكار بعضهم قراءة (وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه)، وقال إنما هي (ووصى ربك)، وكان بعضهم يحذف المعوذتين من المصحف، وبعضهم كان يكتب دعاء القنوت بصفته سورة من سور القرآن، وهذا، كما يقول شيخ الإسلام، خطأ معلوم بالإجماع والنقل المتواتر، ومع ذلك فلم يبادر أهل زمانهم إلى إصدار بيانات تكفيرية بحقهم، كما لم يحرضوا العامة عليهم!&

ومما أورده شيخ الإسلام من نقد للمتسرعين في تكفير المخالفين ما جاء في مجموع الفتاوى (4/147) بقوله: ".. وكما نازعتْ عائشة وغيرها من الصحابة في رؤية محمد ربه، وقالت: من زعم أن محمداً رأى ربه فقد أعظم على الله الفرية. ومع هذا لا نقول لابن عباس ونحوه من المنازعين لها، إنه مفتر على الله، كما نازعت في سماع الميت كلامَ الحي، وفي تعذيب الميت ببكاء أهله وغير ذلك".

&

فيا أيها المتنادون إلى تكفير الناس، يا من تلتقطون تأويل مسلم لمعنى حديث معين، أو بنقده لمتنه الذي ربما خالف صريح القرآن، أو بإبداء رأيه في حجة الإجماع أو القياس، ويا من تفتشون في عتمات الدواوين الشعرية، لتؤولوا بيت شعر مجازي ثم تصيحوا في البيداء: كفر فلان، وخرج من الملة علان، ها هم سلفنا وسلفكم كانوا يتحرزون من تكفير من باشر مقولات كفرية صريحة، بل إنهم كانوا يتحرزون من تكفير أناس أنكروا قراءات مشهورة من القرآن، فهل ترحموننا من تسرعكم حين تكفرون بالظن، بل بأقل من الظن؟

&

وهل ذلك منكم إلا قلة في العلم والورع؟

&

وكم نتأمل أن تقوم الجهة التنفيذية في الدولة بواجبها تجاه لجم التكفير والمكفرين، فالتكفير بوابة مشرعة للإرهاب المادي المباشر، ذلك أن من سيقدم على قتل مسلم إنما يتخذ من ردته عن الإسلام حجة في ذلك، وتكفيره علامة مباشرة على ردته.

&ولابد من التأكيد مرة أخرى على أن تكفير المقولات، خاصة في زمننا الحاضر، لا بد أن يتضمن تكفيرا عينيا، وبالتالي فإن لجم التكفير المتأمل يجب أن يشمل حتى تكفير المقولات التي تتضمن تعيين أصحابها، تلميحا كان أم تصريحا.