مأمون فندي

&&قدم تلفزيون «بي بي سي» البريطاني، ثلاثية لـ«وثائقي» فراعنة مصر المعاصرين عن حكم جمال عبد الناصر، وأنور السادات، وحسني مبارك، للمنتجة المصرية - الفرنسية جيهان الطاهري، والتي عرضت فيها بشكل درامي ذكي لأسباب سقوط كل الزعماء الثلاثة، وكيف وصلت مصر إلى ما هي عليه اليوم. قوة «الوثائقي» تأتي من سطوة الـ«بي بي سي» وقوتها، وكذلك قوة السيناريو الدرامي الذي يتخلى عن الحقائق التاريخية والاجتماعية، من أجل دراما جذابة لمشاهد التلفزيون. لم يشمل الوثائقي بالطبع حكم محمد مرسي، أو عبد الفتاح السيسي أو حتى الرئيس من الباطن جمال مبارك، والذي كان حقبة مستقلة بذاتها، فقط كان يلهث «الوثائقي» إلى لحظة 25 يناير (كانون الثاني) 2011، ليرسم صورة ثورة على الفرعون بالتعليق والصور الصماء التي لا تسمع فيها صوت مواطن عادي، عامل مصنع أو مدرس أو سائق تاكسي. المصري يتحدثون عنه ولا يتحدث. الغريب في «الوثائقي» أنه مصرّ على فرعنة مصر، رغم أن المعاصرين ممن حكموا مصر كرؤساء للوزراء والوزراء معظمهم غير مصريين من حيث الأصول العرقية، كما سأبيّن لاحقا بالدليل، ولكن الإصرار على استمرار جينات «الاستبداد الفرعوني» تناسب الغرب. وحتى العرب الذين تكثر زياراتهم لمصر، ويظنون أنهم يعرفونها لا يدركون الخريطة العائلية للحكم فيها، وبهذا دائمًا ما يسيئون تقدير الموقف بطريقة ربما أسوأ من الأجانب وغير العرب.

الملاحظة الأولى بالنسبة لي كباحث، كانت تمثل ذلك الاختزال للوطن في شخص الحاكم، الذي اشتبكت معه منذ سنين في كتابات أساتذة كبار مثل جون وتربيري وروبرت اسبرنجبنورج وآخرين ممن كنا نصفهم بضحايا تيار الاستشراق في دراسات الشرق الأوسط في الأكاديمية الأميركية. وكان مركز الاعتراض دوما، هو رؤية البلدان كعرض مسرحي كبير يمثل فيه الزعيم دور البطل، ويبقى المجتمع أو الشعب مجرد متفرج غير فاعل في هذه الدراما، فقط يعود الباحثون إليه في لحظة فعل الخلاص التاريخي، كما حدث في الحديث عن التيار الإسلامي الذي قاتل السادات، أو بالأحرى شخصية قاتله خالد الإسلامبولي. ومن خلاله نعرف تيار «الجهاد» أيضا. شخصنة السياسة كلها وشخصنة الوطن، وحتى المعارضة تتم شخصنتها، فلا نعرف من المعارضين إلا سيد قطب وعمر التلمساني وشكري مصطفى وعبود الزمر من التيار الإسلامي، أو فؤاد سراج الدين ورفعت السعيد من حزبي الوفد والتجمع على التوالي، كل هذا محاط بصور للجموع ككتلة غير ناطقة صماء، وتعليق بعض المتخصصين أو اللاعبين على المشهد الوطني برمته. لا تعليق من مواطن ولا قصة لمواطن عادي، حتى الأشخاص الذين صنعوا الفارق مثل خالد سعيد، لا نعرف عنهم شيئا من الفيلم إلا كحالة تعذيب تعكس ممارسات البوليس المصري. فيلم آخر عن مصر تغيب عنه مصر، وتغيب عنه أصوات المصريين، ويبقى الحديث دوما عن الفرعون.

لم أستغرب هذا بعد أن عرفت أن منتجة «الوثائقي» كانت تعمل مراسلة لكثير من الصحف الغربية في شمال أفريقيا، فكان «الوثائقي» مثل القصة التي يكتبها صحافي لجمهور غربي يحرص فيها على غرائبية الشرق exoticism ودهشته كحضارة مغايرة تعمل حسب قوانين مختلفة غير بقية العالم، أساسها الاستبداد الشرقي ممثلا في شخص الفرعون، وكأن الإنسان المصري والتاريخ المصري هو تاريخ متصل بلا انقطاع، لا احتلال حدث، ولا ديانات أو عقائد تغيرت، ولا مماليك جاءوا ولا ألبان، جينات الفرعون مستمرة وجينات المصري كما هي، وهو ما نسميه في العلوم الاجتماعية essentialism أي إرجاع الأشياء إلى أصل واحد دائمًا، وهو نوع مستهجن من التحليل يصفه البعض منا بالغباء.

عندما طرحت هذه الرؤية على صديق عربي قال: «ولكن الحكم في مصر فرعوني» وحكى قصة مفادها بأنه وفي لقائه بالسفير المصري في واشنطن أحمد ماهر، الذي أصبح وزير خارجية مصر فيما بعد، لفترة قصيرة قبل وفاته، قال له أحمد ماهر إن النظام في مصر «ليس ملكيا ولا جمهوريا، بل كان دائما فرعونيا»، قلت لصديقي لو تعرف التفاصيل لوصلت إلى نتيجة عكس ما تقول، فإذا أخذنا مثال أحمد ماهر تحديدا تأكدت نقطتي، فخال الوزير أحمد ماهر الذي سمي على اسمه، هو رئيس الديوان الملكي أحمد ماهر باشا ورئيس وزراء مصر ورئيس مجلس الوصاية على العرش، بعد أن تنازل الملك فاروق عن الحكم لصغيره ما دون السن الأمير أحمد فؤاد. وكان شقيق أحمد ماهر باشا أيضا رئيسا للوزراء في عهد فؤاد الأول، وهو علي ماهر باشا والذي سمي على اسمه أيضا شقيق وزير الخارجية المذكور الذي كان سفيرا لمصر في باريس في عهد حسني مبارك. وأسرة علي ماهر باشا من أعيان الشراكسة في مصر الذين جاءوا مع الدولة الأيوبية.

النقطة التي أريد الوصول إليها، هي أن عبد الناصر والضباط الأحرار عندما جاءوا إلى حكم مصر لم يغيروا من الطبقة الحاكمة، فقد تزاوجوا مع باشاوات الأتراك والشراكسة، وبقي كثير من العائلات الشركسية والتركية ذات نفوذ في الحكم حتى اليوم. وكان هناك شركس داخل حركة الضباط الأحرار فلا فرعونية هناك ولا يحزنون.

ومن أمثلة العائلات الشركسية أذكر عائلة ونارك التي انحدر منها الشقيقان جمال وصلاح سالم من أعضاء مجلس قيادة ثورة 1952. وأطلق اسم صلاح سالم على أطول طريق يشق القاهرة. وعائلة حاخو التي تحدّر منها رئيس الوزراء محمود فوزي، وقائد الجيش ووزير الدفاع محمد فوزي. وكذلك عائلة حجازي التي أتى منها رئيس الوزراء عبد العزيز حجازي، وعائلات كثيرة مثل الألفي والجداوي وأبو الدهب وزيور التي كان منها رئيس الوزراء علي زيور.. إلخ.

النقطة الأساسية، وهي تلبيس الفرعونية لنظام لم يحكم فيه فرعون منذ نهاية آخر الأسرات، مغالطة تاريخية تلبي رغبات عقول المستشرقين.

مصر غيّرت ديانتها وحكامها من مماليك إلى أتراك إلى ألبان إلى خليط من كل هذا.

ما ينقص هذا النوع من الوثائقيات والدراسات المسطحة عن مصر، هو معرفة شبكات العائلات الحاكمة أو النخب التي تركب على معظم الاحتجاجات رغم عدم مصريتها أحيانا. فمعظم أعضاء جماعة الإخوان من أصول تركية، حتى خالد الإسلامبولي قاتل السادات والذي أجرت «الشرق الأوسط» مقابلة مع والدته السيدة قدرية يوسف («الشرق الأوسط» 27 مايو/ أيار 2002) هو من أصول تركية. إذن المسألة ليست مسطحة، كما يحب أن يرويها كثيرون بما فيها هذا «الوثائقي» الرومانسي، والذي كعادة كتابات ووثائقيات اليسار المصري مدفوع برؤية آيديولوجية تغيب أو تُغيَّب عنها تفاصيل التاريخ المهمة التي تناقض رؤيتهم لمصر والمجتمع المصري.

«الوثائقي» أيضا لا يؤمن بما يعرف بالاقتصاد السياسي للشعوب وأثره على الإفلاس السياسي وانهيار شرعية الأنظمة. فليس في حالة مصر فقط يكون الاقتصاد مهما، بل الإفلاس هو الذي أسقط الاتحاد السوفياتي بجلالة قدره! والإفلاس وليس الهزيمة وحدها، هو التي أسقط عبد الناصر ونظامه. ولولا دعم 2.1 مليار دولار سنويا للسادات، لسقط نظامه بعد الانفتاح مباشرة. فالحكم عن طريق الآيديولوجيات الشيفونية والوطنية المبالغ فيها يسقط مع أي انفتاح أو توجه ليبرالي، وهذا ثابت تاريخيا في حالات عدة، واتحاد غورباتشوف السوفياتي مثال ناصع على ذلك. متى ما أفلس النظام سقط، وهذا أمر يجب تدبره حتى هذه اللحظة.

هذا النوع من الوثائقيات والأعمال الشعبية التي يحتفى بها، لا بد من أن يتعرض للتقريظ والنقد حتى لا تمر مقولات الميثولوجيا وكأنها حقائق اجتماعية لا تناقش.

فراعنة مصر المعاصرون ليس بهم فراعنة، وحتى المصريون منهم خليط من الأعراق في حالة الرؤساء الثلاثة مبارك والسادات وعبد الناصر، أما زوجاتهم فهن من الإنجليز في حالة مبارك والسادات، والعجم في حالة عبد الناصر. قدم أهل البلاد في «الوثائقي» كصور صماء لا تنطق. حشود تحمل أعلاما أو صور ثابتة أو مقاطع من أفلام، يقوم بها ممثل نيابة عن المصريين، كلها تؤكد على قالب نمطي يتداوله المستشرقون عن مصر (stereotype) بينما مصر هي مجتمع ذو دينامكية تتضح معالمها أكثر إذا ما قورنت بإيطاليا والمكسيك وغيرهما من الأنظمة السياسية في سياقات أخرى، وليس سجنها داخل صندوق مصري مغلق صور على أنه استمرارية لفرعونية استبدادية، بينما الفرعون التاريخي لم يكن كذلك، ولكنها قوة الميثولوجيا والتصفيق لها من قبل من لا يعرفون.

&

&