&محمد الشاذلي
كان محمد حسنين هيكل الذي توفي أمس في القاهرة عن 93 سنة، في القلب من جيل جديد يتشكل في الصحافة المصرية بعد الجيل الأول من الصحافيين الشوام، على تخوم الحرب العالمية الثانية، والتي شهدت في نهايتها لمعان مجلة «روزاليوسف» لفاطمة اليوسف، وتأسيس مجلة «آخر ساعة» لمحمد التابعي، وإطلاق صحيفة «الأخبار» لصاحبيها مصطفى وعلي أمين.
عندما اندلعت ثورة تموز (يوليو) 1952 كان هيكل في منتصف العشرينات من عمره، وسرعان ما اكتسب ثقة ضباط الثورة الشبان، خصوصاً جمال عبدالناصر. كان عبدالناصر أكبر بخمس سنوات من هيكل، ولكن في العام 1952، كان الضابط الثائر والصحافي الطموح يبدوان من جيل واحد، ولهما أصول من الجنوب، عبدالناصر المولود في الإسكندرية من قنا، وهيكل المولود في القاهرة القديمة من أسيوط. كان عبد الناصر القائد الفعلي لتنظيم الضباط الأحرار، وكان هيكل صحافياً شاباً وفي الوقت نفسه رئيساً لتحرير «آخر ساعة» التي بات يملكها الأخوان علي ومصطفى أمين. وفي العام 1957 استطاع محامي أسرة تقلا إقناعه بالانتقال إلى «الأهرام»، ومن جهته استطاع هيكل إنقاذ الصحيفة العريقة وإعادتها إلى الواجهة والانتشار.
واستمرت علاقة هيكل الخاصة بعبدالناصر طوال فترة حكمه، مفسراً قراراته، محرّراً الكثير من خطاباته، مشيراً بالعديد من الإجراءات، وناقلاً رسائل من الداخل والخارج، ثم حاملاً حقيبة الإرشاد القومي (وزارة الإعلام) لبضعة أشهر، تلك التي شهدت وفاة عبدالناصر.
سمّاه مجايلوه تندُّراً «الصحافي الأوحد». وبقدر ما ربح محبين مخلصين، فقد كسب أعداءً متحمسين، وما زال، لم يفرّقوا بين النقد والتجريح والهجوم الشخصي. وهو قال أخيراً في حوار تلفزيوني إنه لم يتعود الرد على من يهاجمونه «لأن من يشغل نفسه بما يقال ويكتب عنه يقضي عمره بالمعارك الجانبية».
لكن الأمر ليس مطلقاً ولا مجانياً، فقد كان هيكل يعيد بانتظام صياغة الكثير من الوقائع والأحداث في كتبه، ويرد بين السطور وأحياناً فوقها على ما كان يجب أن يشرحه في حينه، وكان رده عنيفاً في كتاب «خريف الغضب» على السادات الذي أقاله من رئاسة تحرير «الأهرام» عام 1974، وفي كتاب «بين الصحافة والسياسة» على الكثير من الصحافيين، خصوصاً علي ومصطفى أمين. هيكل المولود في القاهرة عام 1923 تعرض لأقسى هجوم قبل أشهر عبر كتاب عادل حمودة «خريف هيكل»، وكان حمودة اقترب كثيراً من هيكل ودبج في مدحه واستحسان آرائه، مقالات منشورة في مجلة «روزاليوسف» في التسعينات. اعتبر حمودة أنه لا يذكر عبدالناصر إلا ويذكر معه هيكل، ولا يذكر هيكل إلا ويذكر معه عبدالناصر، فهما شريكان في تجربة مؤثرة، أحدهما بالجرأة في القرار، والآخر بالكلمة في التعبير. ويذهب حمودة إلى أن «عبدالناصر احترق بتجربته وهيكل استفاد منها» من دون مؤشر على أن هيكل تأثر بها، أو انحاز إليها. وحرص حمودة في إثبات ذلك على ذكر أن هيكل «في بيته الريفي ببرقاش عاش حياة مترفة وسط فقر مدقع يخيّم على سكان المنطقة من حوله، من دون أن يعتبر ذلك جريمة لا تغتفر وفق اعترافه بنفسه». فيما قارن بين «لمسة الترف الوحيدة في حياة عبدالناصر» التي «كانت صوت أم كلثوم وأفلام السينما»، بينما «لمسات الترف في حياة هيكل تمتد إلى ما يتمتع به أغنى الأغنياء في العالم من رفاهية... سماع توزيع جديد لإحدى سيمفونيات بتهوفن في أوبرا فيينا، السفر وراء لوحة مجهولة لفنان شهير مثل فان غوغ أو بيكاسو يعرضها متحف في باريس أو استقطاع وقت من رحلته الصيفية إلى أوروبا لاكتشاف متعة الإقامة في البندقية».
خطّط هيكل ليصبح طبيباً، ولكن خسارة والده في التجارة، جعلته يلتحق بمدرسة تجارة متوسطة، وكان عدم حصوله على مؤهل عالٍ، أحد أبواب انتقادات وُجِّهت له، ربما لم ينقذه منها سوى أن عباس محمود العقاد، لم يحصل إلا على الشهادة الابتدائية. لكن الشاب الطموح قرر استمرار التحصيل العلمي، ودرس في القسم الأوروبي في الجامعة الأميركية في القاهرة، وتعرف خلال الدراسة إلى الصحافي في «الإيجيبشان غازيت» القاهرية، سكوت واطسون، والتي يترأس تحريرها هارولد إيريال ويكتب بها جورج أورويل ولورانس داريل ووايف كوري، وألحقه واطسون بالصحيفة. كان أول تحقيق صحافي لهيكل عن قرار إلغاء البغاء في البلاد، وأخذ رأي مئة منهن، ونشر الموضوع، أما التحقيق التالي فكان في مدينة العلمين ليصف أشرس المعارك بين الحلفاء والمحور، ثم إلى الحرب في مالطا، فاستقلال باريس، ليصبح اسمه معروفاً في الوسط الصحافي، وتستدعيه فاطمة اليوسف عام 1944 وتوظّفه في مجلتها ليكتب للمرة الأولى بالعربية، وهناك أيضاً يتعرف إلى الصحافي الشهير محمد التابعي. وعندما أصدر التابعي «آخر ساعة» اصطحب هيكل معه، ليعمل عامين متتاليين قبل أن يشتري آل أمين المجلة. وقد حصل على جائزة الملك فاروق للصحافة، وانتقل للعمل في صحيفة «أخبار اليوم» الصاعدة، وخلال خمس سنوات، كتب ونشر في مواضيع ساخنة، من تغطية حرب فلسطين، ثورة مصدق في إيران، اغتيال الملك عبدالله في القدس، اغتيال رياض الصلح في عمان، واغتيال حسني الزعيم في دمشق. وقبل ثورة تموز بشهر وخمسة أيام، كتب رئيس تحرير آخر ساعة علي أمين مقالاً في المجلة يبلّغ قراءه باستقالته من رئاسة التحرير وتعيين هيكل رئيساً لتحريرها ولم يكن تجاوز التاسعة والعشرين من العمر.
انتقل هيكل إلى «الأهرام» رئيساً لتحريرها، وعَنْوَنَ مقاله بكلمة «بصراحة» حتى خرج من «الأهرام» بعد 17 عاماً، لكنه كان حوّل الصحيفة إلى مؤسسة ضخمة، وأنشأ فيها مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية ومركز الدراسات الصحافية، ومركز توثيق تاريخ مصر المعاصر.
وإذا كان هيكل كتب للسادات خطاب نعي عبدالناصر: «لقد فقدت الأمة... ....» وفضح «الاتحاد الاشتراكي»، وساند السادات في أزمة مراكز القوى، ما أعجب السادات، فإن خليفة عبدالناصر أخرجه من «الأهرام»، على خلفية العلاقة الجديدة للسادات بواشنطن. وعارض هيكل سياسة الانفتاح ورفض الصلح مع إسرائيل وكتب خارج مصر، فكان في عداد المعتقلين في أيلول (سبتمبر) 1981، قبل اغتيال السادات بشهر واحد، وخرج مع من خرج بقرار عفو من الرئيس الجديد حسني مبارك، وكتب «خريف الغضب» الذي مُنِع لسنوات من مصر.
وإذا كانت علاقته مع عبدالناصر حميمية ومبدأية ومع السادات مرواغة فإن علاقته مع مبارك بدت طوال الوقت ملتبسة، وذُكر أن لقاءات نادرة جمعت بينهما، لكنه كان مفهوماً أن مبارك لا يطيق هيكل، ورفض عودته للكتابة في صحيفة مصرية هي «أخبار اليوم» ومنع الجزء الثالث من مقاله «كيفية اتخاذ القرار السياسي في مصر» من النشر في الصحيفة على رغم جهود رئيس تحريرها إبراهيم سعدة المقرب من النظام. وعاد هيكل ليطل في مجلة «الكتب وجهة نظر» لصاحبها إبراهيم المعلم رئيس دار الشروق، ثم استأذن في الانصراف عندما بلغ الثمانين من عمره. لكن هيكل ترك الباب موارباً كما وعد ليطل من خلال التلفزيون، قنوات دريم، وقناة الجزيرة، وأخيراً قناة CBC، ومن خلال حوارات صحافية، كانت كافية ليطلق صيحته في وجه مبارك: السلطة شاخت في مقاعدها.
كان هيكل في فصله الأخير عندما اندلعت ثورة 25 يناير، ولكن هذا لم يمنع جلوسه مرات مع الرئيس الإخواني محمد مرسي، لكن اللقاءات لم تكن مريحة، وتعرّض منزل هيكل في عهد مرسي إلى حريق أتى على مكتبته، ثم لحق هيكل بثورة 30 يونيو، والتقى الرئيس عبدالفتاح السيسي مرات، وأعلن أنه أعطاه صوته في الانتخابات الرئاسية.
التعليقات