&خالد الدخيل

حتى وقت قريب، كانت الشكوى العربية تتمحور حول تدخلات الدول الكبرى و «مؤامراتها». تبين أن دول الجوار تتدخل أيضاً، وأن الميليشيات باتت تنافس الدول. بعض هذه الميليشيات تغوَّل على الدولة في الداخل، وبعضها الآخر تحول قوة إقليمية في الخارج. تحت وطأة الميليشيا افتقد العراق القدرة على بناء جيش وطني. في لبنان الدولة في حال شلل شبه كامل. لا يستطيع لأكثر من سنة ونصف السنة الآن انتخاب رئيس له بسبب نفوذ الميليشيا. وسورية التي كانت مثالاً لقوة النظام السياسي وسطوته، أصبح مستقبلها ومستقبل رئيسها رهينة لتدخل روسي، ودور أميركي، ونفوذ إيراني، ومصالح ميليشيات من كل حدب وصوب.

المدهش أن هذا الوضع الخطر، بما ينطوي عليه من تهديد للجميع، فشل في تحفيز النظام العربي على الدفاع عن نفسه. هناك إجماع على أن الأمل بإنقاذ هذا النظام معلق على تعاون مصري- سعودي. وهو أمل قد يتحقق شيء منه في زيارة العاهل السعودي الملك سلمان بن عبدالعزيز إلى مصر. ما يبقي على جذوة هذا الأمل أن الرياض والقاهرة هما آخر ما تبقى من أعمدة النظام العربي. كل منهما في حاجة ماسة الى الآخر حتى لا يواجه الانهيارات بمفرده. استعادة زمام المبادرة في مثل هذه الحال باتت الخيار الوحيد لوقف التدهور، وتحصين الدول العربية الأخرى التي لم تتأثر بذلك حتى الآن. لكن على رغم ذلك، وعلى رغم المصالح المشتركة، وحاجة كل منهما للآخر في هذه المرحلة، إلا أنه ليس هناك تحالف سعودي- مصري، ولا حتى ما ينبئ بشيء من ذلك. لماذا؟ أحد أسباب ذلك يعود الى طبيعة الدولة العربية، وبالتالي الى طبيعة النظام الإقليمي العربي. من أبرز سمات هذا النظام انعدام إمكان التحالف الحقيقي بين أطرافه طوال الـ100 عام الماضية، وهي سمة حان وقت التخلص منها قبل الآن بكثير. السبب الآخر يتعلق بهواجس مصرية نابعة من تاريخها الحديث، خصوصاً اعتيادها على فكرة أنها الدولة الأكبر، والأقوى، والأعرق، وبالتالي الأحق بتسنم قيادة العالم العربي. المعضلة أن فكرة قيادة مثل هذه ليست بطبيعتها وراثية، وإنما مسألة قدرات وإمكانات، وأنها بذلك تتطلب أثماناً لا قدرة لأي دولة عربية على تحملها بمفردها في الظروف الراهنة. وثبت بالتجربة والتاريخ أن النظام العربي غير قابل لهذه الفكرة أصلاً ولا يتسع لها. أمام هذا الواقع يبقى أن البديل هو التعاون لتشكيل قيادة مشتركة تستند إلى مصالح مشتركة لأعضاء النظام.

أول متطلبات هذا التعاون الالتقاء على رؤية مشتركة للوضع العربي. وأهم عناصر هذه الرؤية حالياً رفض فكرة الميليشيا بما تمثله من تهديد لمفهوم الدولة العربية وهويتها ووحدتها واستقرارها. وقبل ذلك رفض الطائفية بكل أطيافها كأساس ومبرر لفكرة الميليشيا. اللافت هنا أن موقف مصر متردد من طبيعة الدور الإيراني، خصوصاً في العراق وسورية، وهو موقف مربك من حيث أن حكومة مصر الحالية تعتبر نفسها وريثة للتجربة الناصرية. وهذه التجربة ترتكز إلى الهوية القومية للدولة العربية. كيف يمكن في هذه الحال تبرير التردد المصري حيال الدور الإيراني وهو يرتكز إلى تحالف الأقليات وآلية الميليشيا، وما يمثله ذلك من تهديد مباشر للهوية القومية للدولة العربية؟ وهو مربك ثانياً لأن الحس الطائفي في مصر ضعيف جداً بالمقارنة مثلاً مع الشام والعراق، وبالتالي يفترض في هذه الحال أن تكون مصر أكثر حساسية ورفضاً من غيرها أيَّ دور طائفي في المنطقة، ولتفشي فكرة الميليشيا. وبدا هذا الارتباك في ما أبداه وزير الخارجية المصري أخيراً من تقليل لأهمية وصف «حزب الله» اللبناني بأنه تنظيم إرهابي، وتأكيد هذه الصفة في حق حركة «حماس» الفلسطينية.

المتطلب الثاني لتفعيل النظام العربي، الاعتراف بأن الدولة العربية التي تشكلت بعد نهاية الحرب العالمية الأولى ترهلت واستنفدت أغراضها، وأنها بوضعها الحالي سبب لما آلت إليه الحال العربية، الأمر الذي يفرض ضرورة إصلاح هذه الدولة سياسياً ودستورياً واقتصادياً، وإعادة تشكيلها بما يتناسب مع متطلبات المرحلة. ثالثاً الاعتراف بأن فكرة قيادة النظام العربي من دولة بعينها كما فشلت من قبل فشلاً ذريعاً، لن تكون أكثر نجاحاً في المستقبل. لقد غادرتنا المرحلة الناصرية لأنها أصبحت تنتمي للتاريخ وليس للحاضر أو المستقبل، ويجب أن نغادرها أيضاً. رابعاً الاتفاق على ضرورة الحوار مع إيران انطلاقاً من موقف عربي موحد، فإيران من دول الجوار العربي. ولها كل الحقوق التي تقتضيها هذه الجيرة. لكن ليس من بين هذه الحقوق التدخل في الدول العربية لنصرة فريق على آخر، ولا تبني الميليشيا آليةً لهذا التدخل وما يتسبب به من تأجيج للصراع وتعميق للانقسام، كما هو حاصل في العراق وسورية ولبنان. في الوقت نفسه ليس من حق إيران، وليس مقبولاً منها أو غيرها، أن تجعل من الميليشيا رافعة لدورها الإقليمي. يجب أن يكون تعامل إيران مع الدول العربية هو تعامل دولة مع دولة أخرى، انطلاقاً من وطنية هذه الدول وسيادتها، وليس من خلال وسائط كالمذهبية وآلية الميليشيا. إذا تم الاتفاق مع إيران على ذلك سيكون من السهل الحوار والتوصل إلى ما يحفظ حقوق ومصالح الجميع.

تبرز بعد ذلك العلاقات السعودية مع قطر وتركيا. وهي علاقات تعتبرها مصر عقدة أمام تطور علاقتها وتعاونها مع السعودية. ومصدر هذه العقدة لدى القاهرة مسألة «الإخوان المسلمين». الغريب في الموقف المصري أنه لم يتجاوز هذه المسألة بعد مضي ما يقرب من السنوات الثلاث على إسقاط حكم «الإخوان»، ولا يأخذ في الاعتبار أن الموقف السعودي من «الإخوان» قد يختلف في التفاصيل لكنه في ما عدا ذلك يلتقي مع القاهرة كثيراً. والحقيقة أن منشأ عقدة القاهرة هنا داخلي قبل أي شيء آخر. والأرجح أن السعودية انطلاقاً من ذلك تقوم منذ زمن بدور وساطة بين مصر وتركيا إما لتحقيق مصالحة بين أنقرة والقاهرة، أو على الأقل لتخفيف حدة الاحتقان بينهما. موضوع هذه الوساطة سيكون من بين المواضيع التي سيطرحها العاهل السعودي الملك سلمان بن عبدالعزيز أثناء زيارته مصر. لماذا تحرص الرياض على ذلك؟ لأنها تعتبر أن تنسيقاً على الأقل بين الرياض والقاهرة وأنقرة ضروري لإعادة التوازن للمنطقة أمام الانكفاء الأميركي، والهجوم الروسي، وتحالف ما يسمى جبهة «الممانعة» بقيادة إيران، بما يؤمن وزناً كبيراً لمواقف ومصالح هذه الدول الثلاث في الحلول المقترحة لأزمات المنطقة، وأهمها الأزمة السورية. لكن هذا التوازن غير ممكن من دون تعاون سعودي- مصري حقيقي وجريء، على قاعدة رؤية مشتركة ليس لمصالحهما فقط وإنما للمصالح العربية عموماً. السؤال: قد يقال إن ما يجعل مصر مترددة في ذلك هو انشغالها بوضعها الداخلي المتأزم، أو أنها لا تريد أن تنحشر بين السعوديين والإيرانيين، أو توجسها من أن الحل في سورية قد ينتهي بإخراج الجيش من معادلة الحكم وإدخال «الإخوان» إلى هذه المعادلة، أو كل ذلك مجتمعاً؟ مهما يكن، يبقى أن المصلحة الاستراتيجية السعودية تقتضي التعاون مع مصر والحفاظ على مصالحها واستقرارها، وأن سعيها للوساطة بينها وتركيا ينطلق من رؤية أن بقاء التأزم بين القاهرة وأنقرة لا يخدم أياً منهما، وليس في مصلحة المنطقة في الظروف الراهنة، بل إن إزالة هذا التأزم ستساعد مصر في حلحلة أزمتها الداخلية، وينتظر أن تحقق مصالح للأطراف الثلاثة تتجاوز التوصل إلى حلول لأزمات المنطقة، إن قُدِّر لهذه الحلول أن تتحقق.. فهل تستجيب القاهرة؟