& دز هاني نسيره

تطرح القيادة الحالية في إيران نفسها حاليًا «شريكًا» للغرب والمجتمع الدولي في حربه على تطرّف «داعش» و«القاعدة»، وهي تبرّر تدخلها السافر في سوريا لقمع الانتفاضة الشعبية على نظام بشار الأسد، بأنه لقتال «التكفيريين» و«الإرهابيين». غير أن تاريخ ملالي طهران منذ نجاح ثورة الخميني عام 1979 يشمل حالات كثيرة من التعاون الوثيق بينهم والجماعات التي تصفها طهران بـ«التكفيرية» و«الإرهابية» – ومنابعها الفكرية -، وفي هذا المقال نسلط الضوء على بعض مفاصل علاقات التعاون بين الجانبين.

مثلت ثورة الخميني في فبراير (شباط) 1979 مثالًا ونموذجًا أبهر مختلف من يوصفون بـ«لإسلاميين» و«الجهاديين» المتشددين وانجذبوا إليه، معلنين كونها «صحوتهم» الإسلامية ونموذجهم الملهم الناجح الوحيد حتى هذا التاريخ، قبل عقدين ويزيد من ظهور «طالبان» ثم تنظيم «داعش».

وفي عام 1979، عام نجاح الثورة الإيرانية نفسه، وقع حدثان مهمان يعبّران عن هذا التلاقي والتأثير المبكر الذي مهد لتفاهمات بين نظام الثورة الإسلامية الإيرانية، والحركات الإسلامية السنّية المتشددة في المنطقة:

أولهما: في نفس العام توحدت مجموعات الجهاد المصري لأول مرة، في تنظيم واحد بقيادة محمد عبد السلام فرج، ونجحت في اغتيال السادات الذي استضاف الشاه وعقد اتفاقية السلام مع إسرائيل، كما يذكر الظواهري في كتابه «فرسان تحت راية النبي»، وخلدت إيران اسم قاتله خالد الإسلامبولي حين أطلقت اسمه على أحد أكبر شوارع العاصمة طهران.

ثانيهما: في العام نفسه، تحوّل «الناصري» فتحي عبد العزيز الشقاقي (1951 - 1995) من آيديولوجيته الأولى نحو الثورة الإسلامية و«الجهاد» الإسلامي، متأثرا بـ«الإمام الثائر» آية الله الخميني، كما وصفه في إهداء كتابه، وصار مؤمنا به وبآيديولوجيته، وظلت حركته من أبرز الحركات المتشددة والمقاومة التي تحتفظ بعلاقات وثيقة مع النظام الإيراني بعد الثورة. ولقد ألف الشقاقي عقب تحولّه للتوجه الإسلامي المتشدد عددًا من الكتيبات والرسائل، في الدعوة للوحدة والثورة الإسلامية، بقدرة فكرية حاولت الدمج بين الثورية الحزبية والأدوات الفكرية الآيديولوجية في نقد الآيديولوجيات السابقة، والإعجاب بمرشد الثورة الإيرانية الخميني، لحد الانبهار والاتهام من قبل منافسيه بالتشيع.

كان أول ما كتبه الشقاقي وأصدره في نفس العام كتابه «الخميني الحل الإسلامي والبديل»، والذي أهداه لمن اعتبرهما رجلي القرن، فكتب إهداءه إلى «الإمام الشهيد حسن البنا والإمام الثائر الخميني»، ويتحدث بعواطفه عن إيمانه بها وبه «آية الله الذي التفت حوله ملايين الجماهير العطشى للحرية والعودة إلى الله». ويستخدم الشقاقي في كتابه تعبير «الربيع» في وصف ثورة الخميني، يتوقع ما كان شائعا حينها من أن المعركة القادمة ستكون أفغانستان، بين «المجاهدين» الإسلاميين وبين الشيوعية الصاعدة، وهو ما كان بعد ذلك. ويعجب الشقاقي بمهاجمة الخميني الشديدة والساخرة ممّن سماهم «المتظاهرين بالقداسة البلهاء من رجال الذين يصوّرون الإسلام نظاما روحانيا لا علاقة له بالسياسة والشؤون الاجتماعية، طالبا اعتبارهم أعداء من الداخل». ولقد استمر الخميني في دعوته تلك حتى وفاته في تسعينات القرن الماضي، مركزا على التقريب بين الإسلاميين المتشددين ونموذج الثورة الإسلامية الإيرانية.

وثق من علاقة نظام الولي الفقيه في إيران بسائر الحركات الإسلامية المتشددة في العالم العربي والإسلامي، بدءًا من الإخوان المسلمين ووصولا لـ«القاعدة» وفروعها، أنها مثلت في وعي وخيال هؤلاء بعد نجاحها النموذج الملهم والتنظيم الثوري الإسلامي الأول الذي نجح في إقامة «دولته الإسلامية»، وإزاحة نظام حكم وضعي علماني كافر - حسب قاموسهم الآيديولوجي - وإسقاطه والسيطرة على أحد كبرى بلاد العالم الإسلامي (إيران في حالتنا).

كذلك مهد لهذه العلاقة، قبل نجاح الثورة وبعدها، ومنذ ظهور الخميني (1902 - 1989) الأبرز في يونيو (حزيران) 1963 نفي الأخير بسبب حديثه عن علاقات الشاه بإسرائيل وتكفيره بسببها. وهو ما ترتّب عليه اعتقاله ونفيه في ما بعد، أنه قد تشابهت المنطلقات الفكرية والآيديولوجية بين طرفي العلاقة في مراحلها الأولى بشكل واضح، فكما سطر الخميني في «الحكومة الإسلامية» مضامين الحاكمية، داعيا للحكم الإلهي، ورفض التشريع الوضعي، وتحريم التحاكم إليه ولمؤسساته، حتى ولو في عباء كما ينقل عن بعض الفقهاء، حيث يقول: «من رجع إليهم فقد رجع إلى الطاغوت في حكمه وقد أمر الله أن يكفر به.. ولقد قال بعض الفقهاء بأنه حتى في الأمور العينية لا يجوز أخذ العين المملوكة - كالعباءة - والتصرف فيها إذا كان استردادها بأمرهم وحكمهم»، جعلته يبدو في عرف ما يعرف بـ«الإسلاميين والجهاديين العرب» النموذج الملهم والسابق والحل بالنسبة لهم، كما كتب فتحي الشقاقي الذي سبقت الإشارة له.

لم يكن سقوط الخلافة العثمانية سنة 1924 الوقود المحرك لمختلف الحركات «الإسلامية» و«الجهادية» السنية فقط، بل كان كذلك عند الخميني الذي كان استنفاره ودعوته لعلماء الشيعة ومرجعية النجف، استشهادا بمعارضة علماء السنة لأتاتورك.

ففي حديثه للمرجع السيد محسن الحكيم، بعد نفيه من تركيا للعراق في سبتمبر (أيلول) 1965، يحكي أنه زار إحدى قرى تركيا، وقال له أهلها إن العلماء أيام أتاتورك «اجتمعوا وتحركوا ضد قراراته فقام بمحاصرة القرية وقتل أربعين من كبرائهم».

ثم يعلق الخميني قائلا: «فخجلت وفكرت مع نفسي وقلت كيف قام هؤلاء العلماء من أبناء السنة الكرام حينما رأوا الخطر يتهدد الدين الإسلامي، وقدموا أربعين قتيلا، في حين لم ينزف أي عالم من علماء الشيعة!! ولا حتى قطرة دم من أنفه.. في الوقت الذي يتعرض فيه ديننا إلى هذا الخطر الكبير الذي نعرفه، حقيقة إن الأمر يبعث على الخجل».

هكذا، مهّد هذا الهدف الآيديولوجي الكبير، استعادة «الخلافة» و«الإمامة» الإسلامية العالمية، لارتباطات نظام الثورة الإسلامية الإيرانية بسائر تنظيمات هذه الثورة فيما بعد، سواء الارتباطات الباكرة أو المتأخرة منها، كما حجب ومنع عن كل منها الاهتمام والانشغال بالتقليد الديني السلفي أو الخلافات المذهبية التاريخية. بل حاول مؤسسوها وقادتها الأوائل دائما إخفاء ميولهم العقدية أو الفقهية جانبا، في دعوتها العامة لصحوة الأمة أو دولة الخلافة الجديدة وتجاوز حالة الضعف الإسلامي الناتج عن خلاف أمته.

التقى تصور الخميني - وتصوّر سيد قطب - على أن هذا الدين تحمله الطلائع المقاتلة من «المجاهدين»، فيقول الخميني: «الإسلام هو (دين المجاهدين). ولقد سأل صحافي عربي الخميني قبل الثورة، بقليل: ألا تعتقدون أن دائرة الأحداث الإيرانية ستمتدّ إلى تركيا أيضًا؟ فأجابه الخميني قائلا: النهضة الإيرانية المقدسة نهضة إسلامية، لذا من الطبيعي أن يتفاعل معها جميع مسلمي العالم».

كما أعلن الخميني كذلك، في الذكرى الأولى للثورة الإسلامية في 11 فبراير 1980، أن «تصدير الثورة» لمختلف أنحاء العالم، أول مبادئ عقيدته، قائلا: «إننا نعمل على تصدير ثورتنا إلى مختلف أنحاء العالم، لأنها ثورة إسلامية».

والتقت المنطلقات كما التقت الأهداف والشعارات، فالحكم الإلهي عند (الخميني) ليس إلا (الحاكمية) عند سيد قطب وأيمن الظواهري، وليست استعادة الخلافة وتصدير الثورة الإسلامية إلى العالم إلا الجهادية المعولمة، كما مثلتها «القاعدة» وفروعها في ما بعد.

ولا يحضر الخلاف السنّي الشيعي، التاريخي والمعلن أحيانا مراعاة للقواعد، إلا ثانويا في هذه الحالة، أمام الأولويات والتحديات المقدمة، ومواجهة الأعداء المشتركين، ولا تستدعى مجددا إلا حين التصارع على ميدان واحد وساحة واحدة، كما يحدث في العراق وسوريا منذ سنوات قليلة.

أنشأ حسن البنا دارا للتقريب بين المذاهب في الأربعينات من القرن الماضي، التي شاركه فيه وتولى أمانتها الإيراني محمد تقى قمي، والأخير كان يصفه الخميني بالعلامة والمصلح الكبير، وكان ينزل ضيفا على المركز العام للإخوان المسلمين في مصر، كما يروي عمر التلمساني.

كذلك التقى البنا، المعارض الإيراني آية الله أبو القاسم الكاشاني (توفي سنة 1381 هجرية - 1961 ميلادية)، الذي كان مقربا من محمد مصدّق وثورته، وكان الخميني أحد أتباعه المقربين، أثناء موسم الحج سنة 1948. وكانت بينهما مراسلات ومشاورات حول توحيد الجهود وتنسيقها، وهو ما تقرّ به وسائل الإعلام الإيرانية ومؤرخو الإخوان على السواء. وهو ما آتى ثماره مع زيارة تلميذ كاشاني مجتبى نواب صفوي (أعدم سنة 1955) مؤسس جماعة «فدائيان إسلام» لمقر الإخوان فيما بعد، ولقائه بسيد قطب في يناير (كانون الثاني) 1954، وهو اللقاء الذي يصفه سالم البهنساوي أحد مؤرخي الإخوان بـ«الطبيعي» قائلا: «ولا غرو في ذلك؛ فمناهج الجماعتين تؤدي إلى هذا التعاون». ولقد ألقى نواب صفوي حديث الثلاثاء في عناصر الجماعة وطلابهم حين زيارته، وهو ممن أثار إعجاب الخميني والتقوا في تكفير أحمد كسروان والدعوة لاغتياله، وهو ما أعدم بسببه صفوي.

ثم كان اللقاء مباشرا بين الخميني والإخوان - حسب شهادة القيادي يوسف ندا - في مهجره بباريس سنة 1978، واقترحوا عليه لقب «المرشد» الذي قبله، وكانت الجماعة أول المهنئين بالثورة بوفد ضم ممثلين من مختلف فروعها، واتفقت على تنشيط العلاقات والدعم المتبادل خاصة بعد أزمة حصار الرهائن، وعيّنت إيران من جانبها ضابطا للاتصال بالتنظيم الدولي للجماعة الأم.

وفي عام 1966 ترجم علي خامنئي (مرشد إيران الحالي) كتاب سيد قطب «المستقبل لهذا الدين» إلى اللغة الفارسية، وظل هذا الارتباط والتوحد السياسي - المتعالي على المذهبي - هو سمة العلاقة الغالب. وهو ما مهّد في ما بعد لعلاقات وتفاهمات وتعاون بين النظام الإيراني وسائر الحركات «الجهادية» والجبهوية، خاصة في ظل تلاقي تصور الأعداء بينهما، من العدو القريب الأنظمة العربية والإسلامية، حتى العدو البعيد - وربما جدا - أميركا وإسرائيل.

&

&