&محمد الرميحي&&
على فترات متقاربة في السنوات القليلة الأخيرة، أعلنت دول الخليج، البحرين، والمملكة العربية السعودية، والكويت، ودولة الإمارات وقطر، خطط إصلاح اقتصادي بمنظور مستقبلي؛ من أجل هدف واحد هو (الخروج من عصر الدفء النفطي) الذي أفرز الكثير من الممارسات السلبية الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، حتى كادت تصبح قواعد ثابتة وحقوقا دائمة؛ استعدادا لمواجهة التراجع في أسعار النفط إلى مستويات متدنية وطويلة الأجل، المرحلة التي سماها ولي ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان مرحلة (الفطام من النفط).
وقد فتحت تلك الخطط والمشروعات على مستويات مختلفة نقاشات واسعة بين المهتمين من أبناء دول مجلس التعاون، تدور جلها حول هذه الخطط أو (الرؤى) بين مستبشر بها وبين ناقد لها، أو مكمل لأفكارها أو محبط من القدرة على التغيير والوصول إلى الأهداف التي سمتها تلك الخطط، حتى ذهب البعض إلى القول «إن تلك الخطط هي لا أكثر من مراهنة على الوقت!».
فكرة إيجاد بدائل عن النفط ليست جديدة على المشتغلين بالتفكير من أبناء دول مجلس التعاون. فهناك نخب، على الأقل في العقود الأربعة السابقة، ظلت تنادي بالنظر الجدي لمرحلة ما بعد (العصر النفطي) التي هي قادمة لا شك، وأن الاعتماد على النفط فترة ليست قصيرة من الزمن أقعد المجتمعات عن التطور الطبيعي، الذي كان يجب أن تمر به للتحول المرن في اقتصادها الذي اتخذ شكلا هجينا من الاقتصاد الاشتراكي في التوزيع والرأسمالي في الإنتاج، وحتى يصل متخذ القرار إلى أهمية تغيير المسار، وأن القرار أصبح ضروريا، أخذ وقتا طويلا بسبب (ملابسات انخفاض وارتفاع أسعار النفط الدورية) الذي راوح متخذ القرار بين البدء والتريث، أما اليوم حيث بدأت ميزانيات الدول تشهد عجزا متناميا، كما تراجع الائتمان الدولي لاقتصادياتها، ووصل الأمر قريبا من جيوب الناس العاديين فأصبح الأمر فرض عين.
القطبة المخفية في هذا النقاش هي موقع التعليم والتدريب، أو ما يسمى الاستثمار في رأس المال البشري في تلك الخطط والرؤى الاقتصادية المستقبلية، دون وضع (إصلاح التعليم في قلب تلك الخطط فلن تؤتي أؤكلها).
لا ينكر أحد أن العقود الخمسة الماضية في تاريخ الخليج خلق شيئا يمكن أن يقال له «ثورة صامتة في التعليم» إلا أن هذه الثورة تركزت في الغالب على الكم، وافتقدت في كثير منها الكيف والنوعية. فلم تتمكن هذه المجتمعات بشكل جماعي وواع من الوصول إلى (القفزة النوعية) التي تم مثلها في بلدان أخرى، مثل سنغافورة أو ماليزيا أو حتى فيتنام مؤخرا.
السياق الاجتماعي – السياسي - الثقافي في هذه المجتمعات لم يسمح بتلك القفزة النوعية المبتغاة، بسبب نوعية الممارسات الاقتصادية التي يمكن أن تسمى اشترامالية (اشتراكية رأسمالية) التي خلقت نوعا من الأداء الحكومي والاعتماد الشعبي وسع الفجوة بين التعليم والتنمية، وما زال الكثير من تلك العناصر في الثقافة الشعبية عالقا؛ مما قد يعطل أي طموح لتحقيق القفزة النوعية المرتجاة، والسبب التراخي في فهم أهمية التعليم في المنظومة التنموية.
وعندما اجتمعت الندوة الوزارية العربية التي درست «جودة التعليم في العالم العربي» في الدوحة بقطر عام 2010 على مشارف هبوب (الربيع العربي) الذي كان يتكون في الخلفية، أقر وزراء التربية العرب وقتها بوجود ضعف هيكلي خطير في التعليم العربي. وفي خبرتي لا توجد ملفات وأضابير متراكمة، وأيضا أموال صرفت، كما تراكمت ملفات وصرفت أموال في دول الخليج على التفكير في «إصلاح التعليم»! خبراء من أستراليا والولايات المتحدة وسنغافورة، وحتى فنلندا صرفت لهم أموال من أجل تدبيج التقارير تلك، وبقي معظمها في أدراج الوزارات المعنية.
المطلوب دائما والمفتقد كثيرا لإصلاح التعليم خطوتان «إرادة سياسية» و«إدارة حديثة» لإصلاح التعليم، إلا أن الثمن الاجتماعي لتلك الإدارة والإرادة يبدو حتى الآن غير قابل للدفع بسبب تكون ممارسات أفرزت أشكالا من الاعتماد المتبادل باتجاه الاسترخاء، خذ مثلا تدريب المدرسين وطريقة اختيارهم، في هذه المجتمعات، وهما خطوتان لازمتان للبدء في الإصلاح، لا تخضع طريقة الاختيار إلى ميزان ولا التدريب إلى ضوابط؛ لأن العامل الاجتماعي وضمان الدولة للوظيفة يجعل العمل في التعليم مهنة لتوزيع الدخل لا رسالة للنهضة، فأصبح الأداء الضعيف هو الغالب الذي يؤدي بالضرورة إلى منتج متواضع.
العجيب أن الشكوى العربية من تدني مستوى التعليم يصدح بها أهل الرفاه العربي وأهل العوز، ويشتكون من عناصر التعطيل نفسها في الوصول إلى تميز في التعليم. ظاهرة الجامعات الخاصة في أغلبها زادت الطين بلة، تفتقد إلى نظام لمتابعة إدارة الأداء، فهي والجامعات الرسمية تدفع بمئات الآلاف من الممحية أميتهم الأبجدية إلى سوق العمل الذي لا يملكون مهارة ما للتعامل مع مستجدات سوق العمل التي تتحول بسرعة إلى سوق خدمات تتطلب مهارات مختلفة كليا عن تلك التي لمسها الطالب في مقاعد الدراسة.
ظاهرة أخرى أحسبها لصيقة بالتعليم العربي بسبب هيكليته وطريقة تنظيمه وبرامجه، وهي انتشار الدروس الخاصة من جهة، والغش الواسع في الامتحانات من جهة أخرى، وهما ظاهرتان خاصتان بالنظام التعليمي العربي، تفاقمهما في السنوات الأخيرة أثبت أن علل التعليم العربي قد وصلت إلى الأسوأ، كما أن أسلوب التعامل المجتمعي مع انتهاك النظم والقوانين واللوائح يعني أن الثقافة العامة ليست قريبة من اكتشاف الداء التعليمي العضال..
في دراسة أخيرة حول التعليم قامت بها بعثة علمية سنغافورية للنظر في نظم التعليم في الكويت، لاحظت أن استخدام التكنولوجيا في التعليم في الكويت «خاضع للمبادرات الفردية» وليست سياسة عامة، بل أضيف من معرفة، أن كثيرين في التعليم وفي مواقع إشرافية مهمة لا يحسنون التعامل حتى مع أبسط أشكال الرقمنة الحديثة! استخدام التكنولوجيا في التعليم والتعلم ليس شائعا في الإقليم، بل ما زالت الأشكال القديمة من الوسائل في التدريس هي المتبعة، ربط الشهادة بالوظيفة التي أصبحت معطى اجتماعيا - سياسيا في دول الخليج جعل من قيمة التعليم مظهرا لا مخبرا؛ لذلك انتعشت سوق الشهادات المضروبة، بل شكل أصحابها لوبيا متضخما للحصول على امتيازات درجات (الدكتوراه والماجستير) المضروبة، وهذا من سلبيات دفء العصر النفطي في التعليم، التي أنتجت عاملين، الأول اهتمام شكلي بالتعليم، والثاني انقطاع حضاري عن العصر، إن جانبا كبيرا من العاملين في التعليم في دول الخليج يعملون بمستويات أداء منخفضة، وأصبح هذا الانخفاض ذا تأثير دائري، بمعنى أن ضعف المدرس يؤسس إلى ضعف التلميذ ويقود إلى ضعف المنتج، فلا المعرفة مخدومة ولا المهارة محققة ولا موقف إيجابيا من الحياة يصل إلى الجيل الجديد، فيقع إما في براثن التشدد أو الترهل، وكلاهما يؤدي إلى خواء المجتمع واستنزافه من داخله. في دراسة أخيرة نشرتها مجلة الإيكوميست عن أهمية المعلم، قالت من بين أمور أخرى عن مركزية المدرس في التعليم «لو خصص أفضل 25 في المائة من المدرسين لتدريس الطلاب السود في أميركا لسدت الفجوة بين البيض والسود في ثماني سنوات فقط!».
لن تجد الخطط الاقتصادية الطموحة المعلنة للتطوير في الخليج سبيلا إلى تحقيق أهدافها إن لم يكن في صلبها إرادة سياسية حازمة لتطوير التعليم، فليس هناك من تعليم جيد يخلو من إدارة جيدة أو من مدرس جيد، هي حلقة متصلة حتى الساعة تبدو حلقة حلزونية، تقويمها يحتاج إلى الاعتراف أن مغادرة الدفء النفطي ليس كدخوله، بل تحتاج إلى إرادة وإدارة تعدل من نمط تفكير وأسلوب حياة اعتقدت الأجيال الحالية أن ما هو قائم منها دائم!
آخر الكلام: أخطاء الأطباء تذهب إلى المقابر، أما أخطاء المدرسين فتدمر المجتمعات!
&
&
&
التعليقات