عبد الجليل زيد المرهون
هل تراجع الإرهاب بعد 15 سنة على اعتداءات 11 أيلول سبتمبر؟ هل توارى الخطر؟ وهل كسب العالم الرهان؟. هذه أسئلة جوهرية من الجدير التوقف عندها على صعيد دولي وقومي.
ولابد من تحديد الإجابة أو جملة الإجابات استناداً إلى رؤية واقعية، ومنهج واضح، لا غموض فيه.
إن المعضلة هنا تكمن، على الصعيد العلمي التحليلي، في تعدد المنطلقات استناداً إلى الخلفيات الثقافية والنفسية، السائدة في بيئات جغرافية مختلفة. هذا الواقع، هو في الأصل حالة طبيعية، لا يشير إلى مشكلة قائمة بذاتها، لكنه يفرض مداخل عديدة للمقاربة، تحدد تلقائياً، أو بالضرورة، إجابات متباينة.
سوف ننتهي، على هذا الصعيد، للقبول بتعدد وجهات النظر واحترامها، كوننا لا نستطيع إلزام بيئات مختلفة في منطلقاتها برؤية واحدة، قد نؤمن بها نحن، كنتيجة لتفاعلنا مع الساحات التي نعيش فيها، أو تلك القريبة منا جغرافياً، أو التي قد تماثلنا بمعيار ما.
هذا القول، لا يلغي، في الوقت ذاته، تقديم رؤية عامة، ترتكز إلى المشتركات أو القواسم الكبرى، التي تعد محل إجماع عام، وإن في حدودها الدنيا.
ما الذي يُمكن قوله تحديداً؟. على نحو مبدئي، يُمكن لأي محلل، يلتزم الموضوعية والحياد، أن ينتهي للقول بأن ظاهرة الإرهاب استمرت كبيرة وخطيرة منذ العام 2001 وحتى يومنا هذا.
ويُمكن لهذا المحلل أن يستنتج كذلك بأن لا أفق قريباً للسيطرة على هذه الظاهرة، إن في سياقها الدولي أو الإقليمي. وهذا المحلل يستطيع أيضاً القول إن الإرهاب قد دخل ساحات لم يكن قد وصل إليها في العام 2001، أو لم تكن موضع ابتلاء على النحو الذي أضحت عليه. والمحلل ذاته بمقدوره أن يلحظ بأن الإرهاب الدولي قد بات أشد مكراً على مستوى أساليبه وتكتيكاته. كذلك، توسعت أهداف الإرهاب، وباتت متجهة لتقويض دول وشعوب بأسرها، ومهددة مناطق إقليمية شاسعة، على مستوى أمنها الراهن، وفرص استقرارها بعيد المدى.
والإرهاب، الذي نحن بصدده، بات يمتلك من الإمكانات والقدرات ما لم تتوفر له في أي وقت مضى، وعلى نحو يصعب على الكثير حتى مجرد تصوّره. كذلك، فإن مجموعات العنف السياسي باتت أكثر عدداً وتنوّعاً بالمعنى الحركي، كما بالمعايير السياسية والأيديولوجية. وهذا الأمر لا يشير إلى تحوّل كمي وحسب، بل نوعي بالدرجة الأولى، وذلك لجهة تطوّر البنى التنظيمية والقدرات.
إن الحرب السورية والأوضاع الاستثنائية في العراق، وأزمة الدولة في كل من ليبيا والصومال، وضعفها في مناطق أخرى في أفريقيا، وانفجار الأزمات العرقية والإثنية في دول وأقاليم مختلفة حول العالم، قد خلق بيئة مثالية لنمو الإرهاب وتطوّره، ليغدو خطراً داهماً يطال المجتمع الدولي، ويهدد أسسه والكثير من قيمه ومثله.
في السياق ذاته، كان لعصر العولمة والثورة المعلوماتية دور في نمو مجموعات العنف الدولي، حيث باتت لديها قدرة كبيرة على التواصل فيما بينها، وحشد الأتباع، وممارسة التضليل الإعلامي، وغواية المجتمع.
إن ما تمتلكه بعض مجموعات العنف الدولي من قدرات ذات صلة بالإعلام والتواصل الجماهيري يفوق بمرات عديدة ما لدى دول كبيرة حول العالم. إن هذه القدرة على التعبئة لا تمثل مجرد ميزة إعلامية بل تعتبر بُعداً مركزياً في صيرورة مجموعات العنف وبنائها الراهن، وفرص استمرارها المستقبلي.
وفي سياق الإمكانات أيضاً، لم تعد بعض مجموعات العنف الدولي تستند إلى ما تحصل عليه من تمويل سري، أو غسيل أموال معتاد، أو ابتزاز تقليدي للناس، بل باتت لها موارد كبيرة قائمة بذاتها، تفوق موارد دول كثيرة في هذا العالم. إن مجموعات العنف في المجمل باتت في حال يختلف كثيراً عما كانت عليه عام 2001. وواقعها اليوم أقوى بمرات عديدة، وهذا هو جوهر المتغيّر، أو كنهه، أو أصله.
لاحظوا واقع تنظيم القاعدة وقارنوا بين ماضيه القريب وحاضره. هذا التنظيم، بتشكيلاته الراهنة، والتي ولدت من رحمه ثم انفصلت عنه حركياً، كتنظيم داعش، هو الآن أشد خطراً مما كان عليه في 11 أيلول سبتمبر.
على وقع الأزمة في سورية تطوّر تنظيم داعش وعزز من مكاسبه إقليمياً ودولياً. كان العراق يمثل جذوره الحركية منذ العام 2004، إلا أن قوته الراهنة في العراق قد وجدت خلفياتها المباشرة من قوته المستجدة في المنطقة عموماً.
قد لا يكون مهماً الخوض في تفاصيل قدرات هذا التنظيم، ولكن لاحظوا أن المساحة التي سيطر عليها تفوق مساحة دولة مثل الأردن. وما امتلكه من آبار نفطية يعادل ما تمتلكه بعض دول منظمة أوبك. أما عتاده العسكري فيجمع بين الأسلحة الغربية والشرقية، ولديه ضباط سابقون من الجيش العراقي تدربوا في كليات حربية سوفياتية وغربية.
هذا التنظيم يُمثل نموذجاً لنمو قوى الإرهاب على وقع الأزمات المحلية. ولم يكن بالمقدور، بأي حال من الأحوال، رؤية تنظيم داعش بالصورة التي هو عليها اليوم لولا الحرب الدائرة في سورية.
هذا التنظيم يسيطر الآن على أهم مراكز الثروة النفطية والزراعية في الشرق السوري، ويتحكم في مسطحات خضراء كانت سلة غذاء لكل السوريين، وكان فائضها يصدر إلى المنطقة وما هو أبعد منها.
ولاحظوا أيضاً أن تنظيم جبهة النصرة، الذي غيّر اسمه مؤخراً، يسيطر هو الآخر على محافظة كاملة تقريباً هي إدلب -أرض الزيتون والفستق. كما يسيطر على مساحات عديدة في الجنوب السوري، وخاصة في القسم المحرر من الجولان المحتل.
والنصرة لا تختلف عن داعش سوى في بعض تكتيكاتها، وهي تتقاسم معه الشبان العرب والشيشان الذين يفدون إلى سورية.
غالبية الشباب الخليجي والتونسي يذهبون إلى داعش، وغالبية من الأردن ودول أخرى تذهب إلى جبهة النصرة.
وللعلم أيضاً، فإن بعض الأسلحة الموجودة لدى النصرة لا نظير لها بين تلك المتاحة لدى داعش، وخاصة ما تمتلكه من أجهزة اتصالات وتشويش لا سلكي، غير متوفرة حتى لدى الكثير من الجيوش العربية. أما من أين وكيف حصلت عليها، فهذا سر من أسرار الحرب السورية، التي لا يعلم كنهها إلا القليل.
أياً يكن الأمر، إن القضية المركزية هنا لا تدور حول قوة تنظيمات العنف بما هي تنظيمات محلية، بل بما هي مجموعات إرهابية عابرة للدول والأقاليم، أضحت تمتلك القدرة على تهديد مدن وأقطار مختلفة حول العالم.
وهل ستزداد جماعات العنف قوة ومتانة أكثر مما وصلت إليه في مسيرتها الإجرامية؟. هذا سيتوقف على ما سيؤول إليه الشرق الأوسط. إذا قدر للحرب السورية أن تستمر وتطول سنين فيمكن توّقع ذلك. ويجب حينها توقع ظهور مجموعات عنف جديدة تزايد في إرهابها على داعش والنصرة.
إن الحرب السورية تعد بيئة خصبة لا نظير لها لنمو الإرهاب وتعشعشه وازدهاره. وعلى المجتمع الدولي أن يعي هذه الحقيقة ويقر بها على مستوى الفعل والسلوك. أي أن يعترف بها اعترافاً خلاقاً، بمعنى أن يبني على الشيء مقتضاه. أما الرهانات المستندة إلى حسابات ومصالح جيوسياسية، صادمة لمقتضيات الأمن الدولي، فهي ليست سوى استغراق في الوهم، لا يخدم أحد أبداً في هذا العالم.
إن الإرهاب الدولي بات أخطبوطاً متشعباً، لم تعد قندهار حاضنته، بل الرقة وإدلب. ولم يعد الغرب حصراً من يدفع ثمن هذا الأخطبوط بل العالم بأسره، وفي المقدمة منه الشعب السوري، بكل فئاته، كما الشرق الأوسط عامة، من العراق إلى الأردن إلى تونس.
إن دول هذه المنطقة تمتلك القدرة على مقارعة قوى الإرهاب وهزيمتها، وهي ستصل إلى هذه النتيجة يوماً ما. وعلى القوى الحية في هذه الدول دعم المقاربات الشاملة للقضاء على آفة الإرهاب، والعمل على معالجة جذوره ومسبباته. وهذه مسؤولية تاريخية، نبيلة وسامية.
التعليقات