سمير عطا الله

 هناك توصيفات كثيرة للسياسة، منها أنها «فن الممكن»، ولعل الأصح أنها فن المستحيل. فالممكن ليس فنًا، ولا مهارة، ولا يستحق الذكر. أما ما يصبح ممكنًا وكان يبدو مستحيلاً، فهذا هو سيد الفنون. كل عام يحدث مستحيل ما، وتضحك الناس من نفسها ومن قناعاتها.
خذ مثلاً السيد إردوغان الذي كان رئيس وزرائه السيد الدكتور داود أوغلو. الدكتور لم يكن مجرد رئيس وزراء، بل كان أستاذًا في تاريخ السلطنة، يزين للرئيس أن معه يمكن إحياء الإمبراطورية، بدءًا من زيارة ضريح سليمان شاه أنقرة في الأراضي السورية، ثم الإفادة، أو العودة، إلى أنقرة.
إنه عالم رموز، هذا العالم، مثل «شيفرة دافنشي». وبعدما أرسل الدكتور أوغلو فرقًا عسكرية لزيارة ضريح سليمان شاه، قرر أن يقوم بالزيارة شخصيًا كرئيس للوزراء، المعروف سابقًا بالصدر الأعظم. لكن فجأة هبت الرياح من «الباب العالي». وطار الدكتور أوغلو. وبدأت أنقرة تنقلب. أولاً، مصالحة كاملة مع إسرائيل بعد اعتراض الباخرة «مرمره»، ثم مصالحة سوبر كاملة مع موسكو بعد العرض الجوي الشهير، ثم «الباب العالي» نفسه في موسكو.
وتلاحقت «التلائم». فانقلبت تركيا، الأطلسية تاريخيًا، إلى جانب الروس. ومَن تعتقد مِن الجانب الآخر؟ نعم، إيران. فارس إلى جانب عثمان، وليس في مواجهته. وبين الاثنين، الربّاع بوتين. هل كان يُخيّل إليك قبل سنوات أن ترى حلفًا من روسيا وتركيا وإيران؟ ولا أنا. لأنني رغم العمر والتجارب، لا أزال أصدق البيانات والتصريحات والمواقف. ومن الواضح أن الحق ليس على البيانات والتصريحات والمواقف، بل على من يصدقها ولا يتعلم أمثولاتها.
لماذا تغيرت تركيا؟ تركيا لم تتغير. تركيا أخطأت، مثلك ومثلي، في قراءة الأشياء. لا ينفعك أن تقرأ بالحقائق من فوق. لا شيء يبدو على حجمه أو حقيقته، من أعلى البرج. الذي أدى إلى نهاية السلطنة بعد نحو خمسة قرون، أنها لم تتقبل أن ثمة بابًا أعلى من «الباب العالي». غرور السلطة، مثل غرور الناس، ضرر لا يشفى. لذلك هزم أميركا مزارع أرز جائع في الفيتنام، وكان قد هزم فرنسا من قبل. وهزم روما بالعصي مجموعة ممن سمتهم البرابرة، وهو الاسم الذي أعطاه اليونانيون من قبل للمهاجمين. كل خارجي همجي.
ودعني ألفت نظر جنابك إلى تحول تاريخي آخر، عام 2016. امتناع أميركا من التصويت على قرار المستوطنات، وتصويت فرنسا وبريطانيا وروسيا والصين معه، ومعها نيوزيلندا، أكبر مزرعة بقر في الدنيا، إلى جانب القرار، له ترجمة واحدة: هذا عالم قرر لمرة واحدة، أنه لا يخاف الوقوف في وجه الظلم الجائر.
لعلك لاحظت سلوك نتنياهو وليبرمان: ضاعا ومن معهما. لم يتوقعا يومًا تتجرأ فيه أميركا على نفسها، لكنه حدث. يُرعب إسرائيل أن هذه سابقة لا سابقة لها. وقد حدثت والباب قد فُتح. «الباب العالي» كممر إلى الإنسان وليس كسد في وجهه.
إلى اللقاء...