عثمان ميرغني

ما بين خطاب أوباما في جامعة القاهرة في 4 يونيو (حزيران) 2009 وخطابه الوداعي في شيكاغو الليلة قبل الماضية (فجر أمس بتوقيت العالم العربي) شهد العالم أحداثًا كبيرة، وتحولات سياسية واقتصادية واسعة. لم تعد الصورة وردية، أو الآمال عريضة كما كانت في الأشهر الأولى لرئاسة أوباما وحلم «التغيير» الذي راود الناس، لا في أميركا وحسب، بل في مشارق الأرض ومغاربها. الصورة اليوم تبدو قاتمة، محبطة، بل ومأساوية في كثير من أرجاء العالم.
أوباما دخل البيت الأبيض محمولاً على آمال شعار التغيير. انتخاب أول رئيس أسود لأميركا لم يكن حدثًا عاديا بكل المقاييس، بل كان خطوة تاريخية، انقلابًا في المفاهيم. حدث داعب أحلام الناس، ودغدغ مشاعرهم، وفتح شهيتهم لكي يحلموا بمرحلة جديدة ربما فاقت التوقعات بشأنها حدود الممكن والمعقول. فأميركا أولاً وأخيرًا دولة مؤسسات، محكومة بتوازنات السلطة وحسابات المصالح، لا يستطيع شخص واحد تغييرها بالنيات الطيبة، وشعارات التغيير في ثماني سنوات، مهما كانت قدراته وحساباته.
أوباما سيغادر البيت الأبيض بعد أيام وأميركا أكثر انقسامًا واستقطابًا مما كانت عليه عندما تسلم قيادتها، والعالم أكثر توترًا وإحباطًا. صحيح أن شعبيته لا تزال عالية، لكن أغلب سياساته لا تحصل على درجات مماثلة في قياسات الرأي العام، بل ترى الغالبية أنها فشلت في تحقيق تطلعاتهم. هناك بالتأكيد البعض الذي يرى أن فشل أوباما هو سبب ظاهرة ترامب، وأن الرئيس المغادر لا بد أن يشعر بغصة؛ لأنه سيسلم الرئاسة لا إلى حليفته الديمقراطية هيلاري كلينتون، بل إلى خصمه اللدود الذي أعلن على الملأ أنه يريد محو إرثه.
في خطابه الوداعي لم يتحدث أوباما عن إخفاقات، بل عن تحديات، وقدم سردًا لإنجازاته قائلاً إنه يترك أميركا أفضل وأقوى مما كانت عليه قبل ثماني سنوات. أشار أيضًا إلى أن رئاسته ألهمت الكثيرين بأن في استطاعتهم التأثير والتغيير، لكنه حذر من التهديدات للديمقراطية، ومن عدم المساواة والتكافؤ المجتمعي، ومن العنصرية والانغلاق. وكما كان متوقعًا فقد وجه انتقادات وتحذيرات مبطنة لإدارة ترامب المقبلة، لكنه لم يذكره بالاسم سوى مرة واحدة في خطابه الذي احتوى 4300 كلمة.
في إطار الإنجازات الداخلية ركز الرئيس المغادر على ما تحقق في مجال الاقتصاد، ونظام الرعاية الصحية، وخلق الوظائف، وإنقاذ صناعة السيارات الأميركية من تبعات الأزمة المالية والاقتصادية. أما على صعيد السياسات الخارجية، فلم يذكر سوى تطبيع العلاقات مع كوبا، ووقف البرنامج النووي الإيراني «من دون إطلاق رصاصة واحدة»، وقتل زعيم «القاعدة» أسامة بن لادن. وبينما جاءت هذه إشارات سريعة في جملة واحدة، حظي موضوع الحرب على الإرهاب بمعالجة أطول.
قال أوباما إن أميركا مع التحالف الدولي الذي تقوده قتلت عشرات الآلاف من الإرهابيين، بمن فيهم بن لادن والكثير من قيادات «داعش»، وساعدت في تقليص المساحات التي يسيطر عليها التنظيم، وستهزمه بلا شك. لكنه على الرغم من ذلك وضع حرب الإرهاب ضمن التحديات، وربطها بمسألة القيم والمبادئ الديمقراطية على الصعيدين الخارجي والداخلي، معلنًا رفضه مجددًا التفرقة ضد المسلمين في أميركا، أو لاتخاذ إجراءات في إطار هذه الحرب مخالفة للدستور وللقيم والمبادئ التي تحدد هوية أميركا.
خطاب أوباما كان موجهًا إلى الداخل بالأساس، حيث يعرف أنه يواجه معركة لحماية إرثه مع إدارة ترامب المتحفزة لإلغاء سياساته. لكنه حتى في هذا الإطار سيواجه الكثير من النقد والتمحيص، خصوصًا في ظل الاستقطاب الشديد والانقسام الحاد في أميركا اليوم. أما على الصعيد الخارجي، فإن النقد كان وسيكون أشد لأن إدارة أوباما انكفأت إلى الداخل وفضلت الانسحاب من الكثير من القضايا في وقت تأجج فيه التنافس الدولي، وعادت أجواء الحرب الباردة، واشتعلت الكثير من النزاعات.
بالنسبة للعالم العربي يبدو الفارق هائلاً بين أوباما في خطابه بجامعة القاهرة وفي خطابه الوداعي في شيكاغو. فقبل ثماني سنوات تحدث إلى الناس عن «بداية جديدة» مع العالم الإسلامي، وعن بناء الثقة، وعن دروس غزو العراق، وعن وضع الفلسطينيين «الذي لا يطاق» وعن التزامه شخصيًا بالوصول إلى السلام وتحقيق حل الدولتين «متحليًا بالقدر اللازم الذي تقتضيه هذه المهمة من الصبر والتفاني». كل هذه الأمور غابت عن خطابه الوداعي؛ لأنه لم يحدث فيها إنجازات تذكر، بل إخفاقات. من العراق إلى سوريا وليبيا دفعت المنطقة ثمن التردد الذي طبع سياسات إدارة أوباما. وحتى الصفقة النووية مع إيران التي يعتبرها أوباما من ضمن إنجازاته، فإنها أسهمت في الواقع في تأجيج الصراع الإقليمي؛ لأنها لم تتضمن تقييد طموحات طهران الخارجية وتدخلاتها في شؤون جيرانها.
ما لم يقله أوباما في خطاب الوداع أنه يأسف لكل الفرص الضائعة، والأحلام التي تبخرت.. أو المصائب التي حدثت بسبب تردد إدارته أو انكفائها.