غسان شربل

لا تزعم أنك غير معنيّ. وأن تلك البلادَ بعيدة. أنت تعرف أنها مجاورة لبلادك وإن كانت في قارة أخرى. وأن سفارتَها أكثر من سفارة. وأن الاقتصاد العالمي يعتل إذا مرض اقتصادها الذي يحتل موقع الصدارة. وأن أساطيلها سيدة البحار والمحيطات. وأن عيونها الساهرة في الفضاء لا تنام.
أنت تعرف جيدًا أنها القوة العظمى الوحيدة. وأن كلمتها مرهوبة الجانب في مجلس الأمن، حتى ولو لم تلجأ إلى سيف «الفيتو». وأن إصابات طائراتها دقيقة، سواء كانت بطيار أم من دون طيار. وأن أرقى الجامعات على أرضها وأنك تشتهيها لأبنائك. وأن ثورات علمية وتكنولوجية تتلاحق في مختبراتها. وأن سلوكها يمسّ مصير بلادك واستقرارها. مرة حين تنتابها شهوة التدخل المفرط. وأخرى حين تنسحب وتختار العزلة والانطواء.
أميركا دولة عظمى ومشكلة عظمى. وسواء أحببتها أم كرهتها لا بدّ من الرقص معها. تخطئ وتصحّح. تتسرّع وتتهوّر ثم تنكفئ. يشكو العالم يومًا من حضورها الطاغي. ويشكو في يوم آخر من الفراغ المخيف الذي يحدثه انسحابها.
ذات يوم سخر صدام حسين أمام مدير مكتبه حامد الجبوري من تساقط الزعماء الغربيين. بسبب انتهاء ولايتهم. أو بسبب فضيحة في صحيفة أو على الشاشة. أو خوفهم من الرأي العام. قال صدام شامتًا: «كيف يستطيع اتخاذ قرار تاريخي من يفوز بنسبة 51 في المائة». كان صدام يعتقد كما آخرين أن القائد التاريخي يذهب إلى الانتخابات ليرجع بتأييد 99 في المائة من أبناء شعبه. وأن الحماسة قد تدفع المتوفين إلى المشاركة في الاقتراع. عجز السيد الرئيس عن قراءة الوقائع الجديدة في العالم. القذافي أيضا كان يتسلى بإحصاء الرؤساء الأميركيين الذين تساقطوا كأوراق الخريف في حين ظل هو ممسكا بعنق بلاده. دفع الشرق الأوسط باهظًا ثمن سياسات رجال لا يعرفون العالم.
أيام انتظار تسلم الرئيس الأميركي المنتخب سلطاته مهمة أصلاً. تعكف فيها الحكومات على إعداد أوراقها ومطالبها ومخاوفها. لكن المهمة كانت أقل صعوبة. كان برنامج الرئيس يتضح قبل استقراره في المكتب البيضاوي. هذه المرة تبدو القصة مختلفة. رئيس جديد تمامًا لا يشبه أحدًا من أسلافه. ما قاله إبان حملته الانتخابية وفي تغريداته لا يساعد على استخلاص ملامح واضحة لسياسة متكاملة. هذا الغموض يضاعف الارتباك والإثارة معًا. وثمة من يعتقد أنه لا بد من رصد الأيام المائة الأولى للبدء في رسم احتمالات التعاون أو سياسات حصر الأضرار أو ترتيب التعايش.
يعتقد متابعون للرئيس الجديد أن سياسته الخارجية ستقوم على ثلاثة محاور تعني منطقتنا. الأول إيمانه العميق بإمكان التعاون مع روسيا، رغم العاصفة الأخيرة بسبب اختراقاتها الإلكترونية. والمحور الثاني هو محاربة الإسلام الراديكالي، ويعتقد ترامب أن روسيا يمكن أن تكون شريكًا فاعلاً في هذه المهمة، إضافة إلى دول غربية وإسلامية. المحور الثالث تخفيف نفوذ إيران في المنطقة، وقد تجلّى ذلك بوضوح في اختياره لعناصر فريقه الدفاعي والأمني. لكن ذلك لا يلغي حقيقة تتعلق بشخصية ترامب نفسه، وهي أنه قد يقدم على سياسات مفاجئة أو غير متوقعة.
أعطاني دبلوماسي مثلاً على ما يمكن أن يكون. قال إن رئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي اتصل بترامب بعد فوزه، ساعيًا إلى الاطمئنان إلى استمرار دور الشريك الأميركي في معركة الموصل. تحدث العبادي عن العلاقة الاستراتيجية بين البلدين وأهمية الدعم الأميركي للجيش العراقي في محاربة «داعش» واقتلاعه من الموصل. ردّ الرئيس الأميركي مؤكدًا أن بلاده ملتزمة مساعدة العراق في حربه ضد «داعش». وأنها ملتزمة أيضًا مساعدته لوجستيًا واقتصاديًا. لكن ترامب أوضح للعبادي قبل اختتام المكالمة أن استمرار هذه العلاقة الاستراتيجية يفترض أن تكون سياسة العراق مستقلة وغير شبيهة بسياسة إيران.
قال الدبلوماسي إن ترامب لم يشرح تفصيلاً ماذا يريد. لكن كلامه الأخير أوحى بأن أميركا لن تكون مستعدة لإعطاء شيكات على بياض. أي أنها لن تقدم دعمًا مفتوحًا للحكومة العراقية إذا أصرت على انتهاج سياسات إيرانية.
ليس العبادي وحده من ينتظر تبلور سياسات السيد الجديد للبيت الأبيض. أغلب الظن أن الرئيس بشار الأسد يقلّب الأمر في هذه الأيام. يفكر في المكاسب التي يمكن أن يحققها إذا اختار ترامب الذهاب بعيدًا في التعاون مع روسيا، تحت لافتة محاربة الإرهاب. يفكر أيضًا في موقع نظامه في أي صفقة أميركية - روسية. يفكر بالتأكيد في الأضرار التي يمكن أن تلحق بنظامه إذا قرر ترامب فعليًا لجم الاندفاعة الإيرانية في الإقليم.
أيام انتظار مثيرة. فلاديمير بوتين نفسه ينتظر. والرئيس الصيني يستعد لكل الاحتمالات. والمستشارة الألمانية خائفة من الميول الحمائية. وجنرالات الأطلسي يحاولون استكشاف المرحلة المقبلة. ورجب طيب إردوغان ينتظر ليرى ما إذا كان عليه متابعة رحلته الروسية بالسرعة نفسها أم الضغط على الكوابح. وقادة مجلس التعاون الخليجي ينتظرون ملامح السياسة الإيرانية لترامب. محمود عباس ينتظر على أحرّ من الجمر. رفع العلم الفلسطيني في الفاتيكان ومؤتمر باريس لم يبددا قلقه من حديث ترامب عن نقل السفارة الأميركية إلى القدس.
أيام ترامب المثيرة، ستكون حافلة بالجمل القصيرة والتغريدات والعواصف.