سمير عطا الله

 جمعنا لقاء بعضو الكونغرس الأميركي وحاكم كليفلاند السابق، دنيس كوتشينيك وزوجته إليزابيث. الأحاديث السياسية كانت كلها مألوفة أو متوقعة. المفاجأة في الجلسة، بالنسبة إليّ، كانت أحاديث زوجته، الخبيرة الزراعية، عما يمكن أن يحدث، أو ينتج، عن تفرغ العلم للثروة الطبيعية.


روت أن شركة تاتا الهندية، تملك فيما تملك، 18 مزرعة للشاي، أكبرها في ولاية آسام. عندما قررت أن تكرس تلك المزرعة للشاي العضوي فقط، اكتشفت بعد فترة أن الأرباح انخفضت 70 في المائة من دون اللجوء إلى الأسمدة الكيماوية. تدخل الخبراء، من الصين والهند وإيطاليا.
تقرر إقامة بِرك (مخازن) مياه ضخمة تحسبًا للفصول الجافة. تبين أن هذه البِرك يمكن أن تكون مزارع لإنتاج السمك. تبين أن براز السمك يتحول إلى سماد طبيعي. وتبين للعلماء أيضًا، أن العادة تقضي بإحراق فوائض التقليم من شجر الشاي، فقرروا تحويلها إلى سماد. وتبين لهم أن في الإمكان أن ينبت الفطر الجيد في كنف الخشب فأنبتوا منه مئات آلاف الأطنان. وازدهرت مزرعة في آسام كان الجميع يعتقد أن تخليها عن سموم الكيماويات سوف يؤدي إلى إفلاسها.
ماذا كان الإنجاز الأهم في كل ذلك؟ لم يكن في الشاي، ولا في السمك، ولا في الفطر، كان في أن الأعمال في المزرعة امتدت من سبعة أشهر إلى سنة. وأن فرص العمل ازدادت أمام أهل المنطقة، فلم يعودوا يهاجرون. والبقاء فيها أدى إلى ازدهار التجارة.
دائرة النجاح لا تخطئ. تبدأ من نقطة نجاح، وتتوسع. ونقطة الفشل أيضًا. الزراعة، التي هي أكثر الأشياء بدائية، أصبحت علمًا من العلوم. ضحكت قبل أيام وأنا أقرأ للأديب الكبير ميخائيل نعيمة «مانيفستو» شديد اللهجة ضد الحداثة. جلس على شرفة منزله القروي في سفح جبل صنين، وأخذ يقارن بين نقاء الأمس وغش الحاضر. «أين القمح الذي كان يُزرع في حديقة البيت؟ أين الرغيف الذي كان يُخبز على (صاج) العائلة»؟ وفات أديبنا، الذي عاش سنوات في روسيا وأميركا، أن الوسائل القديمة لم تعد قادرة على إطعام أمواج البشر. وبلدته نفسها لم يعد يكفيها ألف (صاج) تُخبز عليه الأرغفة الرقيقة اللذيذة أكثر من جميع نجوم (ميشلان) التي تحوزها مطاعم فرنسا.
تصور أننا - من أجل الأصالة والفن - لا نزال نجمع الأحرف بالأيدي. نسي نعيمة في حنينه إلى نقاء الأرض، كم انتقد الطرق القديمة في الطباعة، وكم شكا من أصحابها، وكم فرح عندما عثر على ناشر، ليس حديثًا فقط، بل تبادل هو تكاليف الطباعة والتوزيع.
أخبرتنا السيدة كوتشينيك أيضًا، عن أنه في الأماكن الجافة، بدأ العلماء في استخراج الري من نبات الشوك. ولم نستطع الإصغاء إلى التفاصيل. فقد طغى من جديد حديث الكونغرس والبيت الأبيض وسياسات هذا العالم. وبينها شوك جاف لا ري فيه.