أحمد المرشد 

«وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ» لقمان: 14.. ربما نقتصر من تلك الآية علي جملة الأم «حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ»، وليس كل أم نتحدث عنها، ولكننا نتحدث عن أم الشهيد، فالأم التي حملت وتحملت الصعاب والضعف والمرض أثناء فترة الحمل، على أمل أن ترى ابنها يكبر أمامها ويصير رجلاً صالحاً في مجتمعه، وإذا كان الحديث عن الصلاح والتقوى وخدمة الوطن، فليس هناك أغلى من شهداء الوطن ومن حملن شهداء الوطن وزرعن في قلوبهم حب التضحية والإيثار.


لقد شهدت مصر أحداثاً إرهابية كثيرة خلال السنوات الماضية ويبدو أن حملة مواجهة الإرهاب مستمرة لفترة، فالإرهاب يتسلح بكل أسلحة الشيطان ولا دين له، وفي كل واقعة إرهابية يسقط فيها شهداء تعيش أمهات مصر مأساة حقيقية، ربما كان أصعب مشاهدها تلك الأم التي أصرت على حمل نعش ابنها الشهيد الذي لقي ربه في عملية الواحات الإرهابية في آخر حوادث التطرف في مصر، فمنظر الأم أبكى كل المصريين ولم يستطع أحد أن يثنيها عن حمل نعش ولدها، فلذة كبدها الذي تراه صغيرًا مهما كبر، فهو وليدها الصغير، ويكتب لهذه الأم العظيمة إنها لم تبكِ ابنها ولماذا تبكي: «فهو شهيد والشهداء أحياء عند ربهم يرزقون.. إنه شفيعي يوم القيامة أنا ووالده وأشقائه».. يالله على تلك الشجاعة والثبات، فالأم لا تبكي أحدًا مثل ابنها الذي حملته وهنا على وهن في تسعة أشهر، فالابن هو أغلى ما في حياتها وكونها الصغير، وتقضي حياتها كلها تربي ابنها ليكبر أمامها وتعامله على أنه ما يزال طفلاً.


لقد أبكتنا حقاً تلك الأم، فهي رفضت أن يبكيه أشقاؤه «فهو شهيد، وتقول إن استطعت تقديم غيره لمصر لقدمت وفديته بها»، إنها أم الشهيد المصرية، التي تشارك بقلبها وعقلها وكل ما تملك في مكافحة الإرهاب الأسود، فالمواجهة هنا لا تقتصر على التعامل الأمني ضد الإرهابيين، فالأم المصرية تشارك هي الأخرى في هذه الحرب وتقدم كل عزيز فداء للوطن.
في مصر ظاهرة حقاً تستدعي الدراسة، فأمهات الشهداء يشاركن في تشييعهم حتى لحظة دفنهم بروح كلها تحدٍ للإرهابيين، فالأم المكلومة بفراق ابنها بعد أن حملته وهنا على وهن وأرضعته، تسابق المشيعين في حمل نعش ابنها حتى تودع فلذة كبدها وهي تكبر وتهلل، لتكون بجانبه حتى اللحظات الأخيرة. إنها لحظات صعبة، لحظة الفراق ورؤية الابن للمرة الأخيرة ملفوفاً بعلم بلاده.
وأم أخرى والدة أحد الشهداء أصرت على المشاركة في تشييع ابنها وحمل جثمانه في رسالة تحدٍ منها للإرهابيين مؤكدة أنها لن تخضع الى محاولات قهر الأمهات، هذه الأم الشجاعة قالت إن أعداء الوطن لن يفرحوا برؤيتها تذرف الدمع، فابنها الشهيد يستحق الفرح وليس الدموع، فهي افتدت به وطنها الغالي الذي لن ينكسر.
وحتى أكون منصفاً، فالمرأة المصرية عموماً تقدم الشهداء للوطن، فالأم التي كتبنا عنها وأصرت أن تحمل نعش ابنها الشهيد ليست وحيدة، فهناك زوجة الشهيد أيضا التي تظل تبكيه مدى الحياة وتحافظ على أولاده بقوة وثبات، فما لها من امرأة يشار إليها بالبنان، فهي ودعت حياة الزوجية لتظل وفيه لذكرى زوجها الشهيد.


ولنتخيل معاً كم هي صعبة لحظة إبلاغ الأم أو الزوجة باستشهاد ابنها أو زوجها، فبعد كل عملية إرهابية يعلن عنها يبقين على اتصال دائم بمقار عملهم والمواقع الإخبارية لمتابعة ما يجري على الأرض، حتى تأتي اللحظة الفارقة التي ينكسر فيها الفؤاد، فهي لحظة ما أصعبها، لن نقول على الأم والزوجة فقط، فهي لحظة صعبة أيضا على كل عائلة الشهيد وأصدقائه وأقربائه.
ومن الحكايات المؤثرة ما يرويه شقيق أحد شهداء عملية الواحات الإرهابية: «اتصل بي زميل له وأخبرني بمشاركة أخي بالحادث، ولكنه لم يبلغني بالتطورات كلها وأراد أن تكون تدريجية، ليوجهني في النهاية بالذهاب الى مستشفى الشرطة، وهنا صدق حدسي وأدركت أن أخي أصبح من عداد الشهداء فلم أتمالك نفسي وأنا أبكي، وكان كل همي كيف أبلغ أمي وأبي بالواقعة، ومن فرط حزني أبلغت والدي فقط لأني أعرف مدى وقع الصدمة على والدتي، ولكنني فوجئت بوالدتي التي تخطف التلفون من والدي وتبلغني بشهادة ابنها دفاعاً عن تراب الوطن ضد أعدائه الإرهابيين». هذا الشهيد الذي نحكي عنه كان الله كتب له النجاة في عملية أخرى وحزن وقتها حزناً كبيراً لأنه لم ينلْ الشهادة، أعظم خدمة لوطنه، وقد تمنى وقتها أن يكون شهيدًا بدلاً من زملائه، وقال آنذاك لأصدقائه وعائلته: «إن الله يصطفى الشهداء وأراني قريباً منهم» الى أن تحققت أمنيته. قصة هذا الشهيد لم تنتهِ بعد، حيث أصر والده على معرفة تفاصيل استشهاد نجله ولم يهدأ إلا بعد أن علم أن نجله تعرض لرصاصة في صدره وليس في ظهره فأدرك أنه واجه الإرهابيين بقوة وشجاعة وكان مقاتلاً صلدًا ولم يهرب من المعركة، فضرب هذا الأب مثالاً في القوة والصبر.
إنها حقاً منزلة الشهداء التي لا يستحقها إلا من اصطفاهم لها المولى عز وجل، ولا يستحقها سوى الأبطال الذين يتمتعون بخلق الشهداء، فكل الأمهات والأباء الذين استشهد أولادهم وهم في عمر الزهور، وقبل أن تصعد أرواحهم الى السماء منحوا لقب «أم الشهيد» و«أبو الشهيد» لوالديهم وهي شهادة لو تعلمون عظيمة.
ولعل أنشودة أمهات الشهداء ترثي فلذات أكبادهن بقولهن: «يا وطن الشهداء لك النصر والكرامة.. فديناك بقلوبنا الصابرة، فكل شيء يهون من أجلك يا وطني، فأولادنا قرابين لك من أجل نصرتك الكبرى على أعدائك، فوهبنا أبناءنا خزائن الأمل لأجيال قادمة ستنعم حقاً بالاستقرار والأمان، لقد فرحنا بيوم مولدهم وبيوم استشهادهم فكلاهما عيد». ولعل رسالة المرأة المصرية الشجاعة تتلخص في أنها تحمل ابنها مرتين، الأولى وليداً حديث العهد بالحياة فرحة بقدومه، والثانية وهي تزفه شهيداً ملفوفاً بعلم بلده في موكب بطولي.. إنها الأم، فكما هي رمز الحياة فهي رمز الوفاء والعطاء، وهي المدرسة العظيمة التي تضحي بأبنائها فداء للوطن الذي يرتوي بدمائهم، تلك الدماء التي كانت هي المورد لها برضاعتها لهم.
إنهن أمهات الشهداء اللواتي يستحققن لقب «أصحاب مدارس الأبطال»، المؤمنات بإرادة الله الذي يختار أبناءهن الى أعظم منزلة في الوجود، منزلة الشهداء والفردوس الأعلى، فالشهادة شرف ما أعظمه شرف ومنزلة عند المولى عز وجل كبيرة وعظيمة. يا كل أمهات شهداء مصر، وكل أباء شهداء مصر، يحفظكم العلي القدير بأبنائكم المكرمون.
لم تكن عملية الواحات الإرهابية في مصر سهلة، فهي من أضخم العمليات التي واجهت قوى الأمن، فهي محصلة عمل إقليمي ضخم وتعاون بين جماعات وأجهزة استخبارات عالمية، ولكن الأهم أن نتائج الحرب المصرية على الإرهاب تؤتي ثمارها، والعبرة بالنهاية، فقد استشهد ضباط مصر وجنودها وهم يحتضنون أسلحتهم، فالحرب ضد الإرهاب مستمرة لا هوادة فيها، وسينهزم هذا الإرهاب طالما كان في الوطن شباب يسارع الى الشهادة وأمهات يشاركن في زفاف أبنائهن حتي مثواهم الأخير وهن يزغردن فرحاً بأعظم هدية وهي الشهادة في سبيل الوطن، وطن سينتصر حتماً على الإرهاب ويدحره.