عادل درويش

 الجمعة أول من أمس المعروف بـ«بلاك فرايداي»، الجمعة السوداء، ولا علاقة للون بالحزن أو الكآبة في بعض الثقافات الاجتماعية، بقدر ما يتعلق بالسوق الاستهلاكية باعتباره بداية موسم التسويق للكريسماس (أعياد الميلاد)، كظاهرة تسللت إلى بريطانيا من أميركا.

يعود ظهور الاسم المرتبط بالسواد إلى فيلادلفيا في الولايات المتحدة من كثرة علامات إطارات السيارات على الطرق المؤدية إلى مراكز التسوق في يوم الجمعة التالي لعيد الشكر، وهو الخميس الرابع من شهر نوفمبر (تشرين الثاني)، ويعتبر أهم عيد قومي للأسرة في الولايات المتحدة، لأن الجميع يحتفلون به، حتى العلمانيون الذين لا يحتفلون بالكريسماس يجتمعون على مائدة غذاء يتوسطها الديك الرومي. بعض الولايات، ككاليفورنيا، تمنح يوم الجمعة التالي إجازةً للعاملين، وينتهز الآلاف الفرصة ويأخذون الجمعة إجازة، للتسوق.
وتضخم الأمر منذ 1952 ليصل أوجّه في نهاية التسعينات، حيث بدأت المحلات التجارية تفتح أبوابها ساعتين، وتغلقها ساعتين قبل وبعد المواعيد العادية ليصل طول يوم التسوق إلى 13 أو 14 ساعة بدلاً من 8 أو 9. مع بداية هذا القرن أصبحت الجمعة السوداء أكبر يوم للتسوق، ويبلغ مجموع دخل المحلات التجارية فيه البلايين. انتقلت العدوى إلى بريطانيا، وبالطبع تتنافس المحلات الكبرى والصغرى ومراكز التسوق، بتقليد المحلات الأميركية، ويتدفق على مناطق (وأذكر هنا المعروفة لمعظم القراء) مثل أكسفورد ستريت، ونايتسبريدج، ضعفا وأحياناً 3 أضعاف المتسوقين في أيام كالسبت، وبعد ظهر الخميس.

الجمعة أول من أمس في لندن، شهد حادثة بسيطة أدت إلى فوضى عارمة وذعر وتعطيل للمرور وخسائر تفوق الملايين، ويقع اللوم الأكبر على عاتق سوء استخدام وسائل التواصل الاجتماعي، وسوء الاتصال.
مسافة ثلثي ميل من الـ«بي بي سي» إلى ركن الهايدبارك، وتستغرق أقل من ربع ساعة بالسيارة، قطعتها في ساعة ونصف الساعة بسبب تحويل المرور إلى الشوارع الجانبية.
تشابك بالأيدي بين شابين على رصيف مترو الأنفاق المزدحم تحت الشارع، أدى إلى هرولة بعض المنتظرين خارج نفق الانتظار، خشية الإصابة. بعضهم بدأ يرسل معلومات ناقصة (والتركيز على ناقصة أو غير مكتملة) تنصح «بتجنب مترو الأنفاق حرصاً على السلامة» أو «الناس تهرول هرباً من مترو الأنفاق»، بلا تحديد نوع الخطر.
أحد العاملين في المحطة تطوع بمكبر الصوت ليوجه الناس إلى «الإسراع بإخلاء المحطة فوراً»، (ما زلنا في انتظار التحقيق حتى ساعة الذهاب للطبع).
شبح الإرهاب في أذهان الناس، فالهجوم الإرهابي على مسجد الروضة في شمال سيناء كان في كل قنوات التلفزيون والإذاعات البريطانية منذ منتصف صباح الجمعة، وفي الصحف المسائية التي توزَّع في محطات المترو بعد الظهر.
تصور البعض هجوماً إرهابياً، خصوصاً أن أحداً لم يشاهد حادثة العراك بين الشابين سوى بضعة نفر.
سقوط البعض وإصابتهم بجروح أدى إلى مزيد من تهويل الأمر سيكولوجياً في العقل الجماعي للناس.
زادت رسائل التواصل الاجتماعي خصوصاً «تويتر» وصور «إنستغرام» و«فيسبوك»، من الهرولة وسقوط البعض، ومن التشوش والاختلاط.
البعض، بمن فيهم مشاهير ونجوم مجتمع، أرسلوا تغريدات ما أنزل الله بها من سلطان، سواء تخيلاً، أو ادعاءً سخيفاً، بسماع طلقات نار، والبعض ادّعى وقوع انفجار، والبعض ادعى أن سيارة أو شاحنة تدهس الناس (آخر موضة إرهاب مفضلة للمتطرفين الإرهابيين لقتل الناس).
ظهر فيضان من التغريدات، ورسائل بقية وسائل التواصل الاجتماعي في الدقائق الأولى بعد الرابعة والنصف بتوقيت غرينيتش (الشمس تغرب في الرابعة مساء).
بوليس العاصمة، ووحدات مكافحة الإرهاب، وصلت إلى المنطقة في أقل من دقيقتين، وأُغلق الشارع ما بين ميدان أكسفورد ومدخله من عند ماربل أرش (ركن المتكلمين في الهايدبارك)، ومحطات المترو الثلاث بطول الشارع. بدأ البوليس المسلح يفتش كل محل ادّعى أحدهم في تغريدة سماع طلقات نار أو انفجار به (6 محلات كبيرة، ومركزي تسوق، أحدهما داخل ومرتبط بإحدى المحطات فتشها البوليس ركناً ركناً).

وربما يعلم القراء أن البوليس في بريطانيا غير مسلح، فقط بضعة نفر من وحدات خاصة لحماية المطارات والأماكن الحيوية.

وتوزعت مجهودات وحدات مكافحة الإرهاب -وهي قليلة- بين المحلات، وحماية المدنيين، بينما أدى تحويل المرور (يمر في الشارع أكثر من 13 خط «أتوبيس») إلى الشوارع المحيطة (التي امتلأت بآلاف المتسوقين الفارين من شارع أكسفورد)، إلى تعطيل وصول سيارات المطافئ والإسعاف، واستدعت قوات البوليس طائرات هليكوبتر الإسعاف، احتمالاً لنقل مصابين بسبب عدم قدرة الإسعاف العادي على الوصول إلى الشارع. وكل هذا بسبب شائعة وتخيلات في أذهان البعض ومبالغات، سواء عن عمد، وربما عن رد فعل غير شعوري بسبب الخوف من الإرهاب، وربما بسبب الضغط العصبي من توتر التسوق والازدحام.
طبعاً لطفت الأقدار، واتضح أنه لا وجود لأي عمل إرهابي، أو حادثة تصادم، أو أي حادثة على الإطلاق، سوى شجار بين شابين غير مسؤولين.
لكن، تخيَّل، لا قدر الله، أن حادثة أخرى، سواء في مرور أو منزل أو متجر، وقعت بالمصادفة في دائرة قطرها نصف ميل شُلَّت فيها حركة المرور في وسط لندن بسب ما حدث مساء الجمعة السوداء، كيف كانت سيارات المطافئ أو الإسعاف ستصل لإنقاذ مصاب أو أكثر؟ حتى طائرات الهليكوبتر ما كانت ستفلح في منطقة مزدحمة. ومن يعرف المنطقة فإن بعض الشوارع عرضها لا يزيد على 5 أمتار، والبنايات متفاوتة الارتفاع وضيقة، لا تسمح أسطحها بهبوط هليكوبتر.
وماذا إذا كان هناك عمل إرهابي بالفعل في منطقة أخرى، وكل القدرات والقوات متركزة في منطقة تسوق الجمعة السوداء؟
تخيَّل، هذا الأمر يمكن أن يتكرر في أي مدينة في ذروة تسوق ضخم؛ باريس، روما، القاهرة، الرياض، الدار البيضاء... أي مكان، حيث يسرع البعض إلى امتشاق الجوال والتقاط صورة لناس يهرولون في ذعر والبعض سقط على الأرض، ويبدأ في رص بضع كلمات بلا تفكير متروٍّ، ويمطر بها بقية مَن يتابع التغريدات، فيضيف البعض إليها وتغزو وسائل التواصل الاجتماعي.
وتتحول لكمات متبادلة بين شابين طائشين إلى قنابل، وطلقات رصاص وشاحنات تدهس!


كيف يمكن تجنب تكرر «الإرهاب الذي لم يكن» بشكل قد يؤدي إلى مأساة حقيقية؟ لا أعتقد أن أحداً يملك الإجابة.
وسائل التواصل الاجتماعي أصبحت ليست فقط مثل كوكب آخر بل مجموعة فلكية خارج المجموعة الشمسية، ولا يستطيع أحد أن يوجهها أو يقلل من خطورتها أو يتحكم فيها... وحاشا لله أن يحاول أحد التحكم فيها، فلا يمكن لصحافي في كامل قواه العقلية أن يرحب بالرقابة على أي وسيلة تواصل، مسؤولة مثل الصحافة، أو تحلق في فضاء الفوضى كوسائل التواصل الاجتماعي.