أميمة الخميس

أحياناً تبدو لنا بعض القضايا واضحة ومحسومة ولا تحتاج الكثير للحديث عنها؛ لأنها باتت من المسلمات، إلى أن يقدم لنا الطرف الآخر من الضفة المقابلة صورة تتقاطع معها، أو تنقضها، عندها تستوقفنا المفاجأة وتطلب منا إعادة ترتيب موقفنا من الأمور حولنا.

فالصورة الذهنية التي يتداولها العالم عن نظام الملالي في إيران منذ بداية الثورة الخمينية في الثمينينات، تبرزه كنظام يعجز عن الوصول إلى مستوى الدولة المدنية الحديثة، وحتى وإن كان يروج للعملية الديمقراطية الكرتونية داخلة، لكن حتماً كل شيء ينهار ويتفتت عندما يكون على رأس هرم السلطة الثيوقراطية عمامة ثقيلة.

فالنظام مثخن بالحمولة الأيديولوجية التي تقوم على خلطة عجيبة، تجتمع فيها النزعة الشوفينية الفارسية القديمة، مع المظلومية الكربلائية، فكان من الطبيعي أن تسعى إلى تصدير الثورة إلى ما حولها، كجزء من حلم إمبراطوري فارسي قديم يخبو ولكنه لا يترمد.

نظام يعجز عن إدارة علاقته مع محيطه الإقليمي، أو ترتيب مصالحه مع القوى العظمى بشكل يليق بدولة مدنية متحضرة، فنتج عن هذا حرب الخليج الأولى مع العراق، وعشرات الحروب التي تقوم بالإنابة عبر أذرعها في المنطقة.

وعلى جانب مواز ركزت الدبلوماسية الإيرانية جلّ أنشطتها على تعميق التواصل مع بؤر اليسار العالمي، والتي ترفض السياسات الأميركية الإمبريالية، وفق المعادلة (عدو عدوي صديقي).

ويبدو أن شيطنة الولايات المتحدة وحلفائها بالمنطقة لم توظف على المستوى الشعبي فقط، فإننا نجد أن هذا الخطاب قد غادر شعبويته وانتقل إلى الدوائر الأكاديمية، وهذا ما بدا واضحاً في الكتاب الذي ألفه الأميركي من أصول إيرانية حميد دباشي، تحت عنوان (هل يستطيع غير الأوروبي التفكير).

العنوان أغراني باقتنائه ظناً مني أنه يتحدث عن المركزية المعرفية الأوروبية وعلاقتها بشعوب العالم، لأجده عبارة عن مجموعة مقالات جمعها المؤلف بدون رابط، حشد فيها نوستالجيا علاقته بالشرق مع بعض القراءات عن الربيع العربي، مخرجاته ومساراته، وإن كان الكتاب عموماً يعاني قصوراً في المعلومة، وأحادية زاوية الرؤية، وتناول يعسف الأحداث بشكل يتوافق مع وعيه، ولكن عندما نعرف أن معظم هذه المقالات نشرت على موقع قناة الجزيرة القطرية، ستتضح الصورة لدينا بعض الشيء، لاسيما أن الكاتب يفرد صفحات عدة من الكتاب للإطراء والإشادة بكل من إدوارد سعيد وعزمي بشارة!!

يبدو واضحاً أن هناك عملية استقطاب عبر أذرع تستثمر في كل قلم متاح لصناعة صورة نمطية ضد المملكة، عبر الصورة التقليدية التي يحملها فلول اليسار العربي عن الخليج والنفط.

وهذا يقودنا إلى مراجعة موقفنا من الأنتلجنسيا العالمية، ولاسيما تلك التي تعتبر مرجعية في صناعة الرأي العام في الولايات المتحدة، فرغم أن علاقتنا معها ترجع إلى ما قبل الحرب العالمية الأولى، ولكنها ظلت على مستوى المقايضة الاقتصادية في البترولا دولار، دون أن نتجاوزه إلى خلق محاور ضغط ولوبيات تؤمن بقضايانا المحلية.

وبرامج الابتعاث لدينا ترجع إلى الستينيات الميلادية من القرن المنصرم، إلا أنها لم تخلق عمقاً على المستوى القوى الناعمة، في الأكاديميات والمؤسسات التعليمية والأكاديمية، ومراكز التينك تانك، أو في ثقافة الصورة والدراما من مسرح وسينما وسواه.

كتاب دباشي موجود ويتم تداوله ليس فقط على نطاق نخبوي، بل تمت ترجمته، وأشرعت له العديد من المواقع العربية، كقناة الجزيرة وجريدة الأهرام.

وهنا يعيد السؤال طرح نفسه.. ماذا يحدث على الضفة المقابلة؟.