أحمد المرشد 

يمر العالم من شرقه إلى غربه بأحداث كثيرة ومتسارعة تزيد من صعوبة تحليلها في حينها والخروج برؤية عامة وشاملة لما يجري، ومن ضمن هذه الأحداث ما نراه مؤخرًا من تراجع مكونات القوى العالمية، وعلى سبيل المثال كانت الولايات المتحدة الأمريكية وروسيا هما القوتان العظميان في العالم ودخلا في حرب باردة طويلة، وتقود كل دولة مجموعة من الدول سميت بالمعسكر الشرقي (السوفيتي) والمعسكر الغربي (الأمريكي)، واستمرت هذه الحرب قرابة 40 عامًا تقريبًا منذ نهاية الحرب العالمية الثانية وحتي انهيار سور برلين في أواخر 1989 مما شجع جميع دول الكتلة الشرقية على التمرد على حكامها والانتقال الى النظام الحر والانضمام لاحقًا الى المعسكر الغربي، في صورة الاتحاد الأوروبي.. لا نقول هنا إن الجميع انتقل ولكن معظم الدول انضمت بالفعل للاتحاد الأوروبي حتى انتهى ما يسمى حلف وارسو بقيادة الاتحاد السوفيتي المنحل في حين استمر حلف شمال الأطلنطي (الناتو) قائما بكافة أذرعه العسكرية والسياسية.


ربما كان هذا تمهيدا لفكرة تراودني منذ فترة مفادها أن التغيير الكوني مستمر ولا يبقى واقفا مكانه، فكل الأحداث تتغير وتتبدل، فالاتحاد السوفيتي انتهى بفعل سياسة ميخائيل جورباتشوف صاحب مفردات «المكاشفة والانفتاح» لتنهار الدولة الكبرى وتتفكك أوصالها الى 11 دولة ما بين صغيرة وكبيرة، حتى إن بعضها انضم لحلف الناتو.. في مقابل هذا تمدد المعسكر الغربي واستقوى بالأعضاء الجدد في حين تولت الولايات المتحدة في عهد رونالد ريجان قيادة العالم أجمع، لتنفرد بالقرار الدولي منذ ذلك الحين. كما انفردت أمريكا بمعظم الملفات السياسية المفتوحة ومنها عملية السلام وقبلها تولت عملية عاصفة الصحراء التي أزاحت الجيش العراقي عن الكويت، فيما رضخت الدولة الروسية الجديدة في عهد بوريس يلتسين لكل التوجهات الأمريكية في ظل ضعف روسيا سياسيًا وعسكريًا واقتصاديًا واجتماعيًا.
مجمل القول أن الولايات المتحدة أصبحت سيدة العالم وأدارت كافة ملفاته الي حين تغيرت الظروف لغير صالح واشنطن، بل تبدلت تلك الظروف لمصلحة قوى أخرى، مثل روسيا والصين والاتحاد الأوروبي. كذلك تبدلت التحالفات العالمية وتغيرت قطع الشطرنج على مدى السنوات العشر المنصرمة، ولم يعد البيت الأبيض هو سيد التحالفات ومؤسسها، فروسيا لم تعد ضعيفة مثل أيام بوريس يلتسين، لأن الرئيس الحالي فلاديمير بوتين ابن مؤسسة المخابرات السوفيتية العتيقة تولي الحكم وأصبح قائدا يقود جزءا مهما من العالم، حيث أصبحت موسكو قبلة الأتراك والإيرانيين والسوريين وبعض الأطراف العربية التي سئمت السياسة الأمريكية، كما أن موسكو هي التي تدير الأزمة السورية من الألف الى الياء.. في حين نرى واشنطن وقد سحبت يديها من هذ الملف الإقليمي الحيوي، فروسيا هي التي وقفت بجوار الرئيس السوري بشار الأسد وقت أزمته وساندته حتى استرد أراضي كثيرة كان استحوذت عليها قوى المعارضة أو داعش. كما تحركت إيران لدعم سوريا بتنسيق تام مع روسيا، فكانت مساندتها العسكرية والمالية، وقدمت للنظام السوري استشارات عسكرية ومسلحين من هنا وهناك ليس آخرهم مسلحو حزب الله. وقد رأينا تركيا تميل ناحية روسيا في كافة المواقف المتعلقة بسوريا، نظرا لتناقض التوجهات مع الولايات المتحدة خاصة ما يتعلق بالشق الكردي ورفضها اقامة كيان كردي كبير بالمنطقة علي حساب أراضيها.
ومن قبل الأزمة السورية، وجدنا روسيا داعما قويا للملف النووي الإيراني، وكانت بجانب الصين من أكبر الموردين للاحتياجات النووية الإيرانية، مقابل النفظ الإيراني الرخيص مستغلين وقتها الحصار الاقتصادي العالمي على طهران. أما الولايات المتحدة التي ظلت طويلا تقود العالم خاصة منطقة الغرب الأوروبي وتدافع عن دوله ضد الأخطار والتهديدات وتوفر له كافة التغطيات العسكرية، يبدو أنها تبتعد عن مركزية القرار الدولي ولم تعد محوره. هذا الكلام لا ينطبق على الرئيس الحالي دونالد ترامب فقط، لأن سلفه الديمقراطي قرر من قبل انسحاب قوات بلاده من العراق وأفغانستان ومناطق أخرى من العالم توفيرا للإنفاق العسكري من أجل دعم ميزانيته المتدنية والوفاء بمتطلبات الصحة والتعليم في بلاده، وبالتالي ما نستطيع قوله هنا أن أمريكا سيدة العالم الحر وغير الحر لن تكون أرض الأحلام لبقية سكان الكرة الأرضية لأنها شبه تخلت عن دورها كزعيمة للعالم.
ليس روسيا فقط التي اضطلعت بملفات دولية مهمة لم تكن تقترب منها بعد انهيار الاتحاد السوفيتي السابق، فأمامنا الصين التي يبزغ نجمها العالمي بقوة وبسرعة كبيرة في نفس الوقت، وقد نجحت بكين في استغلال غياب الحضور الأمريكي على الساحة الدولية وتراجع دور واشنطن في السنوات الأخيرة والتي بدأ في عهد باراك أوباما كما أسلفنا. فالولايات المتحدة لم تعد قادرة أو راغبة في قيادة العالم مثلما لعبت منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، ورفع الرئيس الأمريكي الجديد دونالد ترامب شعار «أمريكا أولاً»، ولم يتوقف الرئيس الأمريكي الشعبوي عن مجرد القول والتصريحات لانه سحاب بلاده من اتفاقية الشراكة التجارية عبر المحيط الهادي، ومن اتفاقية باريس للمناخ التي وقعها سلفه باراك أوباما، ناهيك عن تهديده الدائم بسحب تعهد بلاده بالدفاع عن دول حلف شمال الأطلنطي. وتمادي ترامب في انسحابه من المحيط العالمي تنفيذا لشعاره المشار إليه ليطالب بإعادة التفاوض بشأن اتفاقية منطقة التجارة الحرة لأمريكا الشمالية التي تجمع الولايات المتحدة وكندا والمكسيك.
لن نقول إن الصين تنوي ملء الفراغ الأمريكي في التو واللحظة، ولكنها تتقدم بقوة نحو هذا بغير عجلة وعبر خطة مرحلية غير متلهفة في تحقيق ذلك في المستقبل القريب، ولم يأت التطور الصيني من فراغ، فلم تتوان بكين في تبني نفس ما أعلنته الولايات المتحدة من شعارات سابقة وجعلت من واشنطن قائدة للعالم، فالصين على سبيل المثال تطالب بتحرير التجارة العالمية والاندماج في الاقتصاد العالمي، وهو المطلب الأمريكي القديم والتي تخلت عنه حاليا حيث تشدد في سياساتها الحمائية التجارية ضد الصين والاتحاد الأوروبي وبقية دول العالم. وإذا كانت الولايات المتحدة قد قدمت مشروع مارشال لألمانيا الغربية والدول الغربية لمساعدتها في تجاوز نكبات وخسائر الحرب العالمية الثانية، فالصين تقوم بنفس الدور حاليا في مناطق عدة بالعالم، منها إفريقيا وأسيا علي وجه الخصوص، وقد أطلقت مبادرة «حزام واحد وطريق واحد» وهي المبادرة الخاصة بإحياة طريق الحرير القديم وتطلق عليه «مشروع القرن»، كل هذا بهدف ربط اقتصاديات إفريقيا وأسيا للاستفادة من المشروع لاحقا واستثمار كل ما قدمته من أموال لدول القارتين الإفريقية والأٍسيوية. ولم يتوقف الدور الصيني على هذه المبادرة، فتزامنت معها تأسيس البنك الآسيوى للاستثمار في البنية التحتية عام 2015، لينافس بقوة البنك الدولى، وليكون أحد أسلحة الصين الناعمة الصين لخلق توازن مع النفوذ الأمريكى والغربي في العالم. وبتأسيس هذا البنك، عوضت الصين تعمد تغييب الولايات المتحدة لها في عملية صنع القرار في صندوق النقد والبنك الدوليين بشكل يتناسب مع قوة بكين الاقتصادية عالميا، هذا عندما كانت أمريكا تهيمن على القرار في هاتين المؤسستين الماليتين العالميتين.
وإذا كانت الولايات المتحدة حلما لمعظم سكان العالم بعد الحرب العالمية الثانية وحتى الآن، فالصين أيضا تسلحت بكافة الأسلحة الاقتصادية والسياسية والعسكرية مما يمكنها من تحقيق «الحلم الصيني» الذي تحدث عنها رئيسها شي جين بينج، فقد أصبحت تمتلك كافة مكونات التقدم الاقتصادي لترويج نموذجها الجديد للعالم.
ويخطط الخبراء الصينيون لاحتلال المكانة الأولى في العالم، أو لو شئنا الدقة احتلال مكانة الولايات المتحدة في العالم بحلول منتصف القرن الواحد والعشرين، أي بعد مرور نحو مائة عام على الثورة الصينية. ما يخطط له الخبراء الصينيون لم يأت من فراغ؛ لأنهم اعتمدوا خطة ثلاثية تطبق على مراحل، الأولى تركز على ملاحقة التقدم الأمريكي في كافة المجالات. وبمجرد أن تنتهي المرحلة الثانية وهي الدخول في سباق دولي مع أمريكا ومشاركتها في عملية قيادة العالم، تبدأ المرحلة الأخيرة وتتسيد في الصين هذا العالم وتقوم بما كانت تقوم بها القوى العالمية الوحيدة والأبرز ونقصد بها الولايات المتحدة.
لقد قرأ الصينيون التاريخ جيدًا وطبقوا ما جاء به من أحداث، فالإمبراطوريات العظيمة تهاوت والقوى العظمى انهارت وحل محلها قوى أخرى، هكذا يقول التاريخ، وقد كتب تاريخنا المعاصر تعبير «العظمي» مرادفًا بريطانيًا إبان تسيدها العالم وكان قبلها الإمبراطورية الفرنسية، ولا ننسى الدولة النازية بكل جبروتها وقوتها، ثم الاتحاد السوفيتي وليس آخرًا ستكون الولايات المتحدة.
وقياسًا على ما سبق، نحن لسنا بحاجة الى التعليق في الوقت الراهن اعتراف الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بالقدس عاصمة لإسرائيل ونقل مقر السفارة الأمريكية من تل أبيب الى القدس، فالتحالفات تتبدل، وهكذا المصالح ومراكز القوى، وإذا كانت إسرائيل تستقوي حاليًا بحليفتها واشنطن فربما يتمسك الفلسطينيون بحليفهم الاستراتيجي الأقوى في العالم في وقت لاحق، ونقصد هنا الصين. فالأيام دول، وعلى نفسها جنت براقش.