خيرالله خيرالله

بدل التلهي بالبحث عن قانون للانتخابات، بهدف تعطيل هذا الاستحقاق الدستوري المهمّ، يفترض في لبنان، ممثلاً بالزعامات السياسية المختلفة، ان يبحث عن وسائل يحمي فيها نفسه من التطورات التي تبدو المنطقة مقبلة عليها. لو كان ممكنا التوصل الى قانون انتخابي يرضي كل اللبنانيين، لما كان هذا البحث العقيم عن مثل هذا القانون مستمرّاً منذ ثماني سنوات. ينسى كثيرون ان المجلس النيابي الحالي، الممدد له مرتين انتخب في اوئل صيف العام 2009. كان مفترضاً في هذا المجلس ان يتوصل الى قانون انتخابي جديد يحل مكان ما يسمّى «قانون الستين» المعمول به حاليا. لكنّ شيئاً من ذلك لم يحصل. هذا يدعو الى طرح أسئلة من نوع هل يخفي «حزب الله»، الذي عطّل انتخابات رئاسة الجمهورية سنتين ونصف السنة، محاولة جديدة للوصول الى المؤتمر التأسيسي، أي الى نسف الطائف ومبدأ المناصفة بين المسيحيين والمسلمين؟

كان الزعيم الدرزي وليد جنبلاط محقّا عندما ذكّر أخيرا بانّ اتفاق الطائف لم يأت على ذكر النسبية من قريب او بعيد، بل تحدث عن دوائر انتخابية جديدة انطلاقا من زيادة عدد المحافظات وإعادة توزيع الدوائر على هذه المحافظات. كذلك تحدّث الطائف عن الغاء الطائفية السياسية مع الوقت، أي تدريجيا، وانشاء مجلس للشيوخ تتمثل فيه كلّ الطوائف والمذاهب. كان الاتفاق على ان يكون رئيس هذا المجلس درزياً.

لم يتطرق الطائف الى الحقائب الوزارية «السيادية» التي باتت حكراً على الشيعة والسنة والموارنة والارثوذكس. وهذا يعني انّه لم يعد مسموحا للدرزي ان يكون وزيرا للداخلية او الخارجية او الدفاع او المال.

هناك تراجع كبير في مستوى التعاطي مع السياسة في لبنان. كان وضع البلد افضل بكثير في الستينات والسبعينات وحتّى قبل ذلك. كان الدرزي في الماضي وزيرا للدفاع او وزيرا للداخلية. كان افضل وزراء الخارجية من الأرثوذكس او الكاثوليك ولم تكن هناك حتّى عقدة ان يكون رئيس الوزراء السنّي وزيرا للمال أيضا، كما كانت الحال مع رشيد كرامي، رحمه الله. كذلك، لم يكن هناك أي حاجز امام الشيعي كي يحتل الموقع الوزاري الذي يستأهله. كان الرئيس عادل عسيران في 1969 وزيرا للداخلية، علما انهّ كان، رحمه الله، قبل ذلك رئيسا لمجلس النوّاب في عهد الرئيس كميل شمعون.

من يصرّ على قانون انتخابي في أساسه النسبية لا يريد انتخابات. هذا امر واضح كلّ الوضوح اقلّه لسبب واحد. يتمثّل هذا السبب في ان قسما من اللبنانيين يرفض فرض قانون انتخابي بقوّة السلاح تكون الكلمة الاولى والأخيرة فيه لمحدلة اسمها «حزب الله». ليس سرّا ان الحزب الذي يهيمن بوسائل مختلفة على قسم كبير من ابناء الطائفة قادر على جرّ مئات الآلاف الى صناديق الاقتراع. وهذا ليس متوفّرا لغيره من الأحزاب ولا للمستقلين، لا لشيء سوى لانّ الاحزاب الأخرى في البلد لا علاقة لها بالتعبئة العسكرية او المذهبية، كما انها ليست قادرة على تجييش أنصارها لا بالمال ولا بالسلاح ولا بالغرائز ولا بأوامر تأتي من «الوليّ الفقيه» في طهران.

إضافة الى ذلك، لا تصلح النسبية للبنان. هناك طوائف كثيرة في البلد، لكنه لا توجد أحزاب سياسية حقيقية يجتمع فيها لبنانيون من مختلف الطوائف والمناطق والطبقات الاجتماعية، باستثناء «تيار المستقبل» المنفتح في العمق على الجميع، لكنّه يبقى، اقلّه في المدى المنظور، مرتبطا باهل السنّة. يمكن الحديث عن حزب واحد فيه تمثيل للبنانيين من كلّ الطوائف. هذا الحزب هو «التجدد الديموقراطي» الذي اسسه الراحل نسيب لحّود الذي لا يوجد ادنى شكّ بانّه كان يمكن ان يكون افضل رئيس للبنان في مرحلة ما بعد الطائف. بقي هذا الحزب، الذي ترأسه حاليا شخصية سنّية (فاروق جبر) نخبويا في بلد ليس فيه مجال واسع كي تنمو أحزاب غير طائفية بعيدا عن المتاجرة بما يسمّى «حقوق المسيحيين» او «الظلم» اللاحق بـ«حقوق المسلمين» او بـ«المحرومين».

تعتبر إسرائيل من الاماكن القليلة في العالم التي فيها نسبية. هناك أحزاب كثيرة في إسرائيل. لكنّ كل هذه الأحزاب يهودية في اكثريتها الساحقة. تضمن النسبية تمثيل العرب من حاملي الجنسية الاسرائيلية. هؤلاء تبلغ نسبتهم نحو عشرين في المئة من السكان، لكن عدد نوابهم لا يتجاوز الستة عشر نائبا، أي انّهم ممثلون باقل مما يستحقون، ذلك ان مجموع عدد أعضاء الكنيست مئة وعشرين نائبا. اكثر من ذلك، ان قسما من هؤلاء النواب يمثل أحزابا صهيونية من بينها حزب «إسرائيل بيتنا» اليميني المتطرّف. هذا ما أدت اليه النسبية في بلد مثل إسرائيل!

هذا يعني انّ لا مجال لاي مقارنة بين تجربة لبنان الذي يفترض ان يكون بلدا منفتحا على كلّ الطوائف والمذاهب وبين إسرائيل الساعية الى التخلص من الاقلّية العربية فيها، أي مما بقي من السكّان الأصليين لفلسطين.

من الأفضل للبنان ان يلملم أوضاعه بالتي هي احسن. هذا ليس وقت اقرار قانون انتخابي جديد لا يوجد ادنى شكّ في ان البلد في حاجة اليه. هناك قانون معمول به يمكن ادخال تحسينات عليه بغية الاتيان بمجلس نيابي مكمل لعملية انتخاب رئيس جديد للجمهورية ولتشكيل حكومة برئاسة سعد الحريري مهمّتها الاولى الاعداد للانتخابات النيابية وليس الغرق في دهاليز المؤتمر التأسيسي، الذي ينسف الطائف، والذي يبقى الهدف الحقيقي البعيد المدى لـ«حزب الله» وايران التي تقف خلفه.

بكلام أوضح، ليس الوقت مناسبا للانتقال الى قانون انتخابي جديد يندرج في سلسلة الانقلابات التي قاومها اللبنانيون باللحم الحيّ منذ ما قبل اغتيال الرئيس رفيق الحريري ورفاقه في مثل هذه الايّام قبل 12 عاماً.

ما ذنب لبنان اذا كانت ايران وميليشياتها محشورة في سورية، خصوصا بعدما بدت إدارة دونالد ترامب مستعدة لصفقة مع فلاديمير بوتين؟ تشمل هذه الصفقة، إضافة الى التخلص من «داعش»، تقليص الوجود الايراني في سورية ووقف المشاركة الايرانية في الحرب التي يخوضها بشّار الأسد على شعبه.

هذا ليس وقت السماح لإيران بالامساك كليا بلبنان عبر مجلس للنواب ينتخب بموجب قانون على قياس «حزب الله» ووفق شروطه.

في ذكرى استشهاد رفيق الحريري ورفاقه، سيبقى اللبنانيون أوفياء لما مثله الرجل من جهة وللنضال الذي خاضوه من جهة اخرى منذ لحظة تفجير باني لبنان الحديث. سيقى اللبنانيون يعملون من اجل المحافظة على العيش المشترك، بحدّه الادنى، لعلّه يأتي يوم يكون فيه مجال لبحث في قانون انتخابي جديد وبما يتجاوز هذا القانون. انّه بحث بين لبنانيين يتساوون في الحقوق والواجبات بعيدا عن السلاح المذهبي والميليشيوي الذي لا مكان له في ايّ بلد يحترم نفسه ويرفض ان يكون مجرّد «ساحة» للاعبين اقليميين لا همّ لهم سوى القضاء على أي صيغة عيش مشترك في المنطقة.