توفيق السيف

 تطور الفكر الإسلامي مدين للاجتهاد. والاجتهاد ليس سوى إعمال العقل في النصوص من جهة، وفي الموضوعات والقضايا الواقعية من جهة أخرى، لاستنباط فكرة أو حكم جديد لم يعرف من قبل، أو لم يكن ظاهرا في النص. ولولا الإقرار بالدور المحوري للعقل وكونه قادرا على كشف وجوه الحسن والقبح في الأفعال، لما كان لدى المسلمين المعرفة الواسعة بالدين التي يملكونها اليوم، والتي تتسع وتتطور يوما بعد يوم.


«أصول الفقه» هو منهج البحث في أدلة الأحكام الشرعية. لا يمكن للفقيه أن يعمل دون الاعتماد على القواعد ونظم البحث والمقدمات النظرية التي تطورت في إطاره. المهمة الرئيسية لعلم أصول الفقه هي وضع الإطارات النظرية وصوغ المفاهيم الناظمة للبحث الفقهي. ومن هنا نقول إن تطور علم الأصول سيقود بالضرورة إلى تطور الاجتهاد والارتقاء بمستوى البحث الفقهي، وبالتالي إنتاج أحكام شرعية أكثر دقة وملامسة لموضوعاتها وانسجاماً مع روح الشريعة.
«أصول الفقه» علم عقلي، يطور القواعد والمفاهيم، أو يستعيرها من العلوم الأخرى كالفلسفة والمنطق واللغة. من يقرأ في الفقه، سوف يصادف على الدوام قواعد مبنية على حكم العقل مثل «لا ضرر ولا ضرار»، «دفع العسر والحرج»، «امتناع التكليف بالمحال»، «عدم جواز التكليف بما لا يطاق»، «دفع الضرر بالضرر»، «أولوية دفع المفسدة على جلب المصلحة»، وعشرات القواعد المماثلة، التي استعملها الشرع في إطاره الخاص.
رغم أن علم الأصول الذي لدينا لا يقارن بما كان عليه في بداياته. فإنه - مثل سائر علوم الشريعة الأخرى - تباطأ كثيرا، ولا سيما في القرنين الأخيرين. نعرف هذا من المقارنة بينه وبين التطور الكبير للعلوم الموازية له، مثل علوم اللغة والقانون والفلسفة وغيرها. واحتمل أن هذا مرتبط بتراجع العلم في العالم الإسلامي بشكل عام، وعدم انفتاح دارسي الشريعة على العلوم الجديدة ومواكبتها والتي تطورت في إطار الحضارة الغربية.
لكني أجد سبباً آخر، وهو إعراضه عن التخصص. وهذه قضية مطروحة تحتاج إلى معالجة فيه وفي علم الفقه، وهو المستهلك الوحيد لنتائج علم الأصول. إن الثورة العلمية التي شهدها العالم، ولا سيما في القرن العشرين، مدينة في جانب كبير من زخمها إلى رسوخ مبدأ التخصص العلمي، الذي تحول بموجبه العلم الواحد إلى عشرات من العلوم الفرعية، المنفردة برجالها ومدارسها ونظرياتها ومجالات عملها. يستحيل أن ترى في هذه الأيام فيلسوفا أو عالم قانون أو طبيبا أو رياضيا، محيطا بكل فروع هذه العلوم. لأن سعتها وغناها يفوق قدرة فرد واحد على الإحاطة بفرع واحد، فضلا عن كافة الفروع.
لو اتجهنا إلى تطوير علم الأصول من خلال تطبيق مبدأ التخصص، فسنرى باحثين متخصصين في اللغويات واللسانيات وعلم الدلالة، وآخرين في نظرية المعرفة ومنطق البحث العلمي، وغيرهم في «الهرمنيوتيك» الفلسفي (التأويل) وفقه القانون. وهذه العلوم قريبة جدا من المجال المباشر لعلم أصول الفقه. لو حدث هذا فلربما تلاشت الفجوة الفاصلة بين علم الدين والعلوم الحديثة. ولربما حصلنا على منظومة واسعة من العلوم الأصولية. وسنجد أن القواعد التي ذكرناها في أول المقالة قد تضاعفت وتفرعت، وبات بإمكاننا الانتقال من الفقه المدون في آلاف المسائل المنفردة، إلى فقه منظومي مرتب بقواعد عامة وفروع مترابطة. وأظن أن هذا سيكون تمهيدا فعالا لتطور الفكر الديني، ومعه معنى الدين ودوره في الحياة العامة.. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

[2]

اضغط هنا للطباعة.