إميل أمين
تأتي زيارة بابا روما فرنسيس الأول إلى الأزهر الشريف ضمن زيارته لمصر أمس في وقت ملتهب ومشتعل بالأصوليات المتصاعدة والشعبويات والقوميات المتزايدة، ويكاد المشهد ينحو جهة المواجهات الإنسانية ذات الطابع الديني،
الأمر الذي يذكر القراء والباحثين بزمن الحروب التي كان منطلقها الصراع العقائدي في القرون الوسطى بين الشرق والغرب، وبين المسيحية والإسلام في الوقت نفسه. هذه الزيارة تذكرنا برحلة قام بها في 24 يونيو (حزيران) من عام 1219 شاب إيطالي (فرنسيس الأسيزي) فقير رغم ثراء والديه، والذي كان النواة الأولى لجماعة «الإخوة الأصاغر»، تلك الجماعة التي اهتمت منذ وقت مبكر بالعلاقة بين أوروبا والعرب، والسعي وراء السلام، ولهذا رفض الحروب الصليبية، وجاء إلى مصر ليقابل السلطان الكامل الأيوبي الذي أحسن لقاءه وكان التلاقي الأول بين الأديان، قبل نحو 800 عام أداة للسلام والوفاق، فهل تجيء هذه الزيارة بدورها كصدى تاريخي لحدث ما أحوج العالم إليه في حاضرات أيامنا؟
وربما يتحتم علينا أن نذكر الجميع أيضاً بما قاله أديب فرنسا الكبير أندريه مالرو ذات مرة من ستينات القرن الماضي، متسائلاً: «هل سيضحى القرن الحادي والعشرين قرناً دينياً أم لا؟».
هناك بعض الحقائق التي لا بد من مواجهتها ومجابهتها لنفهم أهمية الدور الكبير الذي يقوم عليه رجال الدين في حاضرات أيامنا.
الشاهد أن هناك مفارقة تاريخية لمسيرة الأديان بين الشرق والغرب، لا سيما بعد الحرب العالمية الثانية على الجانبين، فهناك فيما وراء البحار تمت تنحية الدين إلى الخلفية لعدم الحاجة إليه ظاهرياً نتيجة للتنوير والشروط الحياتية، التي فُرضت بتأثير التكنولوجيا والاقتصاد ورأس المال والعلوم الطبيعية بقوانينها الصارمة.
وفي الشرق لأسباب مختلفة، حدثت ردة فكرية إلى الوراء، عززتها العولمة والخوف من التلاقي مع الآخر، فعادت بعض التيارات المغرقة في الماضي لتتسيد المشهد.
وما بين تطرفين، أقصى اليمين، وأقصى اليسار، بدا كأن الهدف الحقيقي للأديان يضيع وسط الزحام، لتحل محله نظريات الصدام وتعلو رايات الحرب والمواجهات الدموية، على أن الدين في جوهره، وكما يتراءى للجميع في السنوات الأخيرة، يعود للظهور بوصفه بعداً آخر، يتيح للإنسان أن يمنح حياته أصلاً وهدفاً وإطاراً ثابتاً، وشكلاً فاعلاً بين الميلاد والموت.
هل للأديان بمفهومها العميق أن تكون حائط صد في مواجهة الأصوليات الظلامية على أي جانب كانت؟
الشاهد أنه يمكن للدين، كما يشير إلى ذلك المفكر الألماني هاينز يواكيم فيشر، أن يولد قناعة خارج المظاهرات الجدلية، فالقناعات سواءً كانت نظرية أم عملية، يمكن أن تنبع من الداخل الديني للإنسان، وأن تتولد منها قوة للحياة، كان قد صقلها التنوير ونحتتها العلوم تدريجياً خلال قرنين ونصف القرن من الزمان. وعلى هذا، تظهر الأديان من جديد بوصفها قوة وقناعة تنشئ وتوطد الشخصيات السوية بعيداً عن المغالاة والتطرف.
قبل مجيئه إلى القاهرة ببضعة أيام، وجه البابا فرنسيس رسالة إلى «شعب مصر الحبيب»، بحسب النص، أشار فيها إلى عدة أمور هامة للغاية ينبغي لها أن تسود المشهد الإيماني، لا سيما لدى أبناء النبي إبراهيم، إن أردنا خلاصاً حقيقياً للعالم من ظلامية الموت الذي يمر به العالم في الأوقات الأخيرة.
بداية اعتبر أسقف روما أن الزيارة بمثابة رسالة صداقة وتقدير لجميع سكان مصر وللمنطقة، فالمقبل من بعيد وعن حق يدرك أن الصداقة مفتاح للقلوب النظيفة الراغبة في التعايش الواحد، بعيداً عن مفردات العزل والإقصاء، والاستبعاد والتخوين التي تعلي من شأنها الأصوليات المتطرفة، ثم وهذا هو الأهم في الرسالة، أنها طريق للمصالحة بين جميع أبناء إبراهيم، ويخصص البابا في كلمته الهدف...«إنه العالم الإسلامي»... الذي تحتل فيه مصر مكانة رفيعة.
يمكن القطع بأن هناك فارقاً شاسعاً بين رؤية البابا القادم من الفاتيكان إلى الأزهر، ورؤى أسلافه قبل نحو 800 عام، وفي هذا ربما درس وعبرة لنا نحن المسلمين في الشرق، فنقد الذات الذي جرى في الكنيسة الكاثوليكية من قبل قادها إلى رؤى وأطروحات تقدمية يغلب عليها الطابع الإنسانوي الأشمل والأعم.
وهنا بالفعل يقف العالم الإسلامي في الآونة الراهنة بإلحاح بالغ أمام مهمة مشابهة لتلك التي كانت ماثلة أمام أعين المسيحيين منذ عصر التنوير، وقد وجد المجمع الثاني للفاتيكان بخصوصها حلولاً محددة بدقة، وكان ذلك ثمرة للبحث لمدة طويلة خلال انعقاد جلساته بين عامي 1962 و1965.
كان النقد الذاتي الداخلي للكنيسة الرومانية الكاثوليكية وإعادة تصويب المسار الإنساني، يلقى ولا شك مواجهات من أصوات أصولية في الداخل، غير أن قوى التقدم والاعتدال استطاعت أن تتجاوز المشهد، لتصل إلى المعنى والمبنى الحقيقي للحوار مع النفس ومع الآخر.
يدرك ضيف الأزهر الكبير، الرجل ذو الرداء الأبيض، كما قال في كلمته، أن عالمنا ممزق من العنف الأعمى... هل أرادت تلك الجماعات المغرقة في الموت قطع الطريق على البابا ومنعه من الوصول إلى الأزهر؟
حكماً هذا ما جرت به بالفعل المقادير، فالذين ذهبوا في طريق تفجير كنائس الأقباط يوم أحد السعف، كان من بين أهدافهم أن يبادر الفاتيكان إلى إلغاء هذه الزيارة التاريخية، غير أن البابا رفض القبول أو التسليم بما تريده قوى الكراهية، فالجميع يعيش في عالم تشكل فيه الاعتداءات جزءاً من الحياة، وإلغاء الزيارة يعني الخضوع لإرادة الشر، وهزيمة معسكر الخير.
والثابت أن أسقف روما الماضي قدماً إلى الأزهر الشريف بما له من أهمية وقوة إقناع أدبي ومعنوي حول العالم، إنما يدرك أن هذا تجمع تاريخي للذين يؤمنون بالله وكتبه وملائكته ورسله، وأن رسالة السلام التي ستوجه من قبل تلك المؤسسة العريقة ستزخم العالم بصناع سلام، وبأشخاص أحرار محررين، وصفهم بأنهم أشخاص شجعان يعرفون كيف يتعلمون من الماضي ليبنوا المستقبل، دون أن ينغلقوا في الأحكام المسبقة.
تتيح لنا الرحلة من قلب التاريخ النابض «الفاتيكان» إلى مصر «أم الدنيا» كما أشار في خطابه فرصة ذهبية لمسح الغبار الذي علق بالتاريخ المعاصر بين الشرق والغرب، ولا سيما بين الإسلام والمسيحية، بسبب العداوات الأصولية التي ظهرت على السطح في العقدين الماضيين، وها هي تنمو بقوة وشراسة لتهدد أي مستقبل لأبناء الأديان الإبراهيمية، سواء حدثت العمليات الإرهابية في الغرب أو الشرق.
إن زيارة البابا فرنسيس ليست اللقاء الأول في العقود الأخيرة بين الكنيسة والمسجد، ففي عام 1947، وتحديداً في شهر أكتوبر (تشرين الأول) أقام البابا بيوس الثاني عشر بابا روما في ذلك الوقت كأول شخصية قانونية دولية معترف بها عالمياً، علاقات دبلوماسية دائمة مع أول دولة إسلامية وهي مصر، وقبل ذلك بقرن من الزمن أي في عام 1839، كان والي مصر وباعث نهضتها الحديثة، محمد علي، قد أرسل وفداً إلى روما، لأنه كان يعي الوزن الدولي للبابوية.
وفي عام 1951 أجرى البابا بيوس الثاني عشر لقاء مع الأمين العام لجامعة الدول العربية وقتها عبد الرحمن عزام، باشا، الذي لخص المشهد في العلاقة بين العالم العربي والفاتيكان بقوله: «إن العرب يرون أن رئيس الكنيسة الكاثوليكية، وانطلاقاً من رسالته العالمية، يعد من أبرز المدافعين عن ذلك التراث الروحي الأعلى والأثمن، الذي تتأسس عليه عقيدة الإسلام وعقيدة المسيحية على حد سواء، فالتشارك الروحي بين المسيحية والإسلام سيقود إلى إقامة جبهة مشتركة تشتمل على أكثر من نصف البشرية».
ولعل سائل يتساءل: «إذا كانت العقود الماضية لا سيما في زمن المد الشيوعي قد شهدت تقارباً واضحاً بين العالمين الإسلامي والمسيحي للوقوف في وجه الإلحاد وامتهان كرامة الأديان، فهل نحن نعيش فترة جديدة من التعاون الإسلامي المسيحي الإسلامي الغرض منها صد هجمات الأصوليين ومجابهة إرجافات المرجفين، الذين يتطلعون لأن تضحى الكرة الأرضية جحيماً مقيماً؟».
يبدو أن الجواب قائم في عمق المفهوم الثقافي للأديان، بمعنى أنه ليس المطلوب من رجالات الدين من الأزهر أو الفاتيكان العمل على بلورة توافقيات فقهية أو لاهوتية، ولكن المطلوب العمل على الوصول لقناعة بأن مستقبل العالم يتوقف على الثقافات المختلفة، وعلى الحوار الديني بينها، فالأمر هو كما عبر عنه العلامة اللاهوتي الكبير توما الأكويني، حينما قال: «إن حياة الجنس البشري تتكون في الثقافة، وإن مستقبلها كامن في الثقافة أيضاً».
تسعى الأصوليات عبر أذرعها الإرهابية حتماً إلى تفريق الجميع؛ مؤمنين وغير مؤمنين، فيما يمضي الحوار والجوار في إطار التجميع لا التفريق، وكل مربع يخلفه أبناء إبراهيم من ورائهم تملأه «الفئة الباغية»، ولا شك في ذلك، وعليه؛ فإن فرنسيس الأول في زيارته لمصر والأزهر، كان يستذكر ما قاله سلفه البابا يوحنا بولس الثاني في أثناء لقائه بالمدينة المقدسة «القدس» في الثالث والعشرين من مارس (آذار) من عام 2000، في تجمع للطوائف اليهودية والمسيحية والإسلامية، متأثراً إلى درجة دفعت به إلى التأكيد الملح على بدء عهد زمني جديد للحوار الديني، وعبر عن استنتاجاته في هذا السياق قائلاً: «يجب على كل منا أن يستمد التعاليم من تقاليد دينه، بحيث نلتزم جميعاً بنشر الوعي حول عدم القدرة على حل مشكلات الزمن الراهن، إذا ما بقينا منفصلين دون أن يعرف بعضنا بعضاً».
والشاهد أن الجميع يعلم ما حدث سابقاً من حالات سوء التفاهم والأزمات، التي تشكل عبئاً حتى الآن على العلاقات بين الموحدين من أتباع إبراهيم عليه السلام، ولهذا فإنه لكي تكتب للأصوليات المرة نهاية مبكرة، يصبح على رجال الدين مسؤولية كبرى، مفادها تسخير كل قواهم في العمل على معالجة الوعي بإهانات وخطايا الماضي، ومن أجل اتخاذ قرار راسخ لبناء مستقبل جديد، لا يسود فيه سوى تعاون مثمر ومتسم بالاحترام المتبادل.
والمقطوع به أن الأزهر الشريف بدوره، قد شهد في الآونة الأخيرة ثورة فكرية مباركة لتحريك المياه الراكدة، عبر سلسلة من الوثائق والمؤتمرات التي تدفع في طريق المواطنة والتعددية، مما يقلص ويحجم من المساحة التي تشغلها الأصوليات العدائية في العقول والقلوب.
لقد طرح الأزهر الشريف على بساط البحث الديني والفكري إشكالية الأصوليات الدينية والتطرف باسم الدين ذاك الذي يلغي المواطنة، ويفتح مسارب للإرهاب المؤلم والأسود، فبدءاً من عام 2014، أي مع ظهور «داعش» بنوع خاص، والأزهر الشريف يرفض هؤلاء الذين يدعون الإسلام ويسيرون خارج الفكرة الإسلامية تماماً، ومؤكداً أن «المسيحيين» والمسلمين في الشرق الأوسط هم إخوة، وكان البيان الختامي للمؤتمر الذي عقد في ذلك الوقت يقول: «إنه إذا رفضنا أسس الأخوة هذه، رفضنا الأديان في تعدديتها وبهذا تتفكك مجتمعاتنا، وهذا أمر نحن بغنى عنه، لا سيما أن الحال يغني عن السؤال كما في سوريا والعراق».
ولعل الجميع يتذكر أن الأزهر الشريف وفي وثيقة الحريات التي أصدرها قبل بضعة أعوام، ناشد المسيحيين التجذر في أوطانهم وعدم الهجرة منها، فهم ملح هذه الأرض العربية، أما الأصوليات القاتلة والفرق والجماعات المسلحة التي استخدمت العنف ضد الحرية الدينية فهي جماعات آثمة فكراً وعاصية سلوكاً، وليست من الإسلام الصحيح في شيء.
لقاء البابا والشيخ في الأزهر الشريف صرخة مدوية ضد التعصب والتحزب، فاللقاء يطرد خارجاً كل أشكال الانعزالية، فجميع الشعوب تشكل أصلاً جماعة واحدة، إذ إن لها أصلاً مشتركاً، لأن الله جعل الجنس البشري بكامله يعمر الأرض، والبشر جميعهم أيضاً لهم هدف أخير واحد، وهو الله، فعنايته والشهادة على لطفه ومشيئته بالخلاص تشمل كل البشر... هل لهذا كان البابا فرنسيس يختتم رسالته قبل زيارته التاريخية للأزهر الشريف بقوله: «العالم يحتاج إلى بناة جسور للسلام والحوار والأخوة والعدل والإنسانية؟ الجسور أفضل طريق لمحاربة أصوليات الجدران»..
التعليقات