عبدالله الغذامي

علاقة الأطفال مع الأجهزة اليوم تطغى على كل مساحات وقتهم وذائقتهم وذهنيتهم، وهي ظاهرة عالمية، وقد شاهدت مناظر تقشعر لها الأبدان في لندن، حيث من طبع الحياة هناك أن يسير الناس في الشوارع بأعداد كثيفة، ويتكرر أن ترى فتياناً وفتيات يعبرون الشارع مع انفتاح الضوء الأخضر لهم، وتراهم منشغلين بأجهزتهم لحظة العبور حتى لتنتهي الإشارة وتتحرك السيارات وتسمع المنبهات تصرخ على أحدهم ولكنه يظل منشغلاً بالكتابة على الجهاز وفي وسط الشارع وتمر به سيارات ما بين المسارات وهو غافل عن نفسه وعما حوله، وكثيراً ما ترى مجاميع عائلية في مقهى أو مطعم لا تجمعهم سوى الكراسي المستديرة على الطاولة، ولن تسمع لهم صوتاً ولا لعيونهم نظرات سوى الانكباب على الأجهزة، كل على جهازه ولا يصله بمن معه غير أنهم في مكان حسي وعيونهم في أماكن أُخر عبر شاشة صغيرة تأخذهم لعالم غير صغير وغير محدود.

هذا مظهر عام يعززه ويقويه نوع من التربية المنزلية هي إحدى مظاهر هذه المرحلة حيث صار الوالدان يفرحان بهذه الأجهزة لأنهم وجدوا فيها راحة من تأزمات التربية المنزلية، والولد الشقي الحرك والمشاغب هدأ عبر انهماكه مع عوالم الشاشة الصغيرة، وكأنه في رباط يؤطره ويوثقه بوثاق من السكينة والانشغال والانضباط الجسدي والحركي، ولم يعد البيت في حال انشغال صوتي وأوامري، وكأن السكينة حلت بين عناصر البيت ولن تسمع شكاوى الجيران من الزعيق ولن تسمع أماً تصرخ على طفلها ولا بنتاً تشاغب أخاها، والكل اندمج مع عالمه البعيد وانفصل عن عالمه القريب، وتحول هذا الجهاز ليتولى مسؤولية التربية والتنظيم في البيت في تواطؤ صامت مع الأهل، الذين يعلنون ظاهرياً سخطهم من هذه الأجهزة ولكنهم في الحقيقة يجدون أنها هي التي حلت لهم مشكلات التربية المنزلية، وكل أم أو أب صارا يجدان وقتهما خلواً من ضوضاء المتابعة والملاحقة التي كانت البيوت تعهدها أو الخروج للشارع لطلب التسلية، وهذا مظهر تربوي جديد في أن يتولى جهاز صغير دور المربيات والمرافقات، بل دور الأبوين، ومهما اشتكى الناس من الأجهزة وضررها لكنهم في الواقع أنابوها عن كل مهماتهم الأساسية في المنزل، وصار المنزل بيتاً للراحة والانسحاب الذاتي، لدرجة أن الأم والأب نفسيهما انهمكا مثل أطفالهما، كل مع جهازه، وهذا درس تعلمه الكبار من الصغار، حتى تحولت الحياة كلها إلى شاشة تحملها في جيبك، وتغوص فيها بعيداً عن واقعك المحسوس إلى واقع أشد محسوسية من واقعك الأول.