مجاهد عبدالمتعالي

يجب على الإسلاميين أن يتجنبوا أخطاء العروبيين في تحويل الدين إلى هوية ذات جسد سياسي عقائدي، فالجسد السياسي سيلحقه ما يلحق كل مكون سياسي من عيوب

العروبة تحولت إلى أيديولوجيا سياسية بدلا من أن تتحول إلى هوية عمومية تدعم الترابط بين المواطنين الذين يتحدثون لغة واحدة في دولة واحدة، ثم داعمة إلى ترابط عربي لدول تتحدث نفس اللغة، ولهذا فقد تشوهت العروبة عندما استدمجها السياسيون في نزاعاتهم لتصبح أداة للتنافس السلبي وليس الإيجابي.
هل كان واجبا على المنظرين القوميين تجنيب السياسيين الإمساك بعروة الهوية القومية كي لا تتشوه كل هذا التشويه، أم من حق السياسيين استخدامها في فترة تاريخية تمنحهم الهوية الجامعة لما بعد الحرب العالمية الأولى في نشوء قوميات ما بعد الاستعمار؟
كل هذه الأسئلة تفتح مجالا طويلا للحديث عن منعطفات النهضة العربية بوجهها الملكي الأقدم والأكثر عراقة، ووجهها العسكريتاري المتدفق حماسا أورثنا (النكسة) ليعتذر المثقفون عن غياب العقل فنقرأ (عودة الوعي) كظاهرة تكشف الحماس الذي يقوده العسكريتاري في تغييب وعي الشعوب، مما أبقى (أسطوانة المقاومة) بنفس زخمها حتى سقطت أسطوانتها مع ثورة الشعب السوري 2011، وأفسدها تأخر أميركا كثيرا في الوقوف مع الشعب السوري بالضغط السياسي الحقيقي، لنرى المظاهرات السلمية وقد تحولت إلى فصائل إرهابية لا تحمل من شعارات نشأة الثورة السورية وعلمها الأخضر أي لون أو طعم أو حتى رائحة، بل ضباع ملونة من كل مكان، لتأتي أميركا عندما (ضيعت في الصيف اللبن) فتقصف قاعدة الشعيرات، كاستعراض باهت لرفع العتب، ولنشرب كأس الفصام النفسي حتى الثمالة، بين خلاص من الاستبداد نريده بأيدينا ونعجز عنه، وخلاص من تدخل أميركا نريده ونرجو عكسه.
كانت ورقة التوت في العروبة تغطي العصبيات الطائفية، وكانت ورقة رابحة في وجه الاستعمار الذي حاول الرهان على تقسيمات طائفية ودينية تملأ الوطن العربي، ولكن ورقة التوت سقطت عن الجسد العربي عندما جففها السياسي واستنزفها في نزاعاته وطموحاته الشخصية الذاتية، غافلا عن تعلق الشعوب بها، كهوية جامعة وحاضنة لطموحات نهضة عابرة للحدود لتصبح نوستالجيا بعد أن كانت همّا يوميا على لسان المناضلين الأوائل ضد الاستعمار فيكتب شعرا فخري البارودي (1887/ 1966) ما أنشدته الأجيال: (بلاد العرب أوطاني من الشام لبغدان، ومن نجد إلى يمن ومن مصر إلى تطوان، فلا حد يباعدنا ولا دين يفرقنا، لسان الضاد يجمعنا بغسان وعدنان). 
هل هذا الاستنزاف السياسي لورقة العروبة سلكته الأحزاب الإسلامية، هل تحويل الدين إلى هوية بالمعنى الديماغوجي الشعبوي واستنزافه في معارك أيديولوجية بأدوات ليس من مهمة الدين خوضها، أدى إلى ما نراه من خطب فضفاضة لا تنتهي عن (هذا ليس من الدين، والدين براء من هؤلاء) دون المساس بعمق المشكلة المفاهيمية للدين في القرن الواحد والعشرين، متناسين أن الدين مرتكزه الإيمان وتحويله إلى أيديولوجيا هو تحويل الإيمان الروحي إلى عقيدة أيديولوجية، فالإيمان لا يشترط الإلمام بالتفاصيل، بل هو مطلقات روحية يتساوى فيها الناس، فكل مسلم يؤمن بأركان الإيمان (الله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وبالقدر خيره وشره)، دون دخول في التفاصيل، فالإيمان بهذه الأركان كمطلق روحي يستمد الإنسان من خلاله خلاصاته الروحية في أسئلة الوجود، ولكن العقيدة هنا تتدخل في التفاصيل لترى كتب العقيدة تطرح تفاصيل عن الله وصفاته والملائكة وعددها والكتب المرسلة وأسمائها.... الخ مما لا علاقة له بمطلق الإيمان، بل بداخل هذه الكتب العقائدية دهاليز يسمونها آراء الفرقة الناجية وآراء الفرقة غير الناجية، بينما عموم المؤمنين يولدون ويعيشون بإيمانهم المطلق دون أن يعرفوا إجابة سؤال واحد من أسئلة العقيدة وتفاصيلها التي لم يبحثها الصحابة من السلف الصالح، ولهذا حرص أبوبكر وعمر -رضي الله عنهما- مثلا على أن يُدفنا بجوار قبر رسول الله، صلى الله عليه وسلم، دون أن يدخلا في تفاصيل عقائدية حول جواز الاعتقاد في التبرك من عدمه بالدفن بجوار نبيهم، وقبل ذلك تفاصيل دفن نبينا الكريم بجوار مسجده، وغيرها كثير مما استنزف قضايا الإيمان المطلق لصالح قضايا العقيدة المقيدة باجتهادات بشرية سكب فيها الكثير من الحبر والدم على مر العصور الإسلامية، لتعيش الأمة الإسلامية (فقه القاتل)، متجاهلة دفاع الرسول الكريم عن (دين الضحية) في: (ألا شققت عن قلبه).
يجب على الإسلاميين أن يتجنبوا أخطاء العروبيين في تحويل الدين إلى هوية ذات جسد سياسي عقائدي، فالجسد السياسي سيلحقه ما يلحق كل مكون سياسي من عيوب، ولهذا فإردوغان رغم كل تلاعباته السياسية إلا أنه في الحقيقة يمسك بالعلمانية كضامن حقيقي لعدم التورط في ما يريده (فتح الله كولن) من تحويل الدين إلى أيديولوجيا دينية تقود الدولة، فيقع عليها ما وقع على بعض جاراتها، أو على أقل تقدير كانت ستعيش رهاب تصدير الثورة الإيرانية إليها.