مصطفى السعيد
لم تصمت الولايات المتحدة طويلا أمام الانتصارات التى يحققها المحور الروسي، والذى يكاد يطيح بالنفوذ الأمريكى القوى فى منطقة الشرق الأوسط، خصوصا مع تمدد نفوذ المحور الروسى الإيرانى السورى العراقى على حساب دولة داعش المنهارة، وتعرض القوات الأمريكية المتبقية فى أفغانستان إلى هجمات متوالية، بينما كوريا الشمالية تواصل تحديها الصاروخى لأمريكا فى شرق آسيا.
الهجوم الأمريكى المضاد امتد على عدة محاور، أهمها التحرك العسكرى على الجبهات المشتعلة فى سوريا والعراق وأفغانستان، رافقها تحرك دبلوماسى قوي، إمتد من طرد البعثات الروسية من الولايات المتحدة، إلى التلويح بإلغاء الاتفاق النووى مع إيران، وحتى محاولة استصدار قرار من مجلس الأمن يمنح قوات الأمم المتحدة فى جنوب لبنان حق التفتيش عن أسلحة حزب الله ومصادرتها، وفرض عقوبات اقتصادية شملت لاول مرة كلا من باكستان ومصر. أخطر ما أقدمت عليه الولايات المتحدة هو إنزال قوات فى شرق سوريا، مع تشكيل ما سمته المجلس العسكرى لمحافظة دير الزور، الواقعة على الحدود بين سوريا والعراق، وإعلانها أنها ستشن هجوما تسيطر عليه القوات الموالية لها من الأكراد وبعض العشائر على المنطقة الحدودية الإستراتيجية، وهو ما قد يؤدى إلى صدام عسكرى مع الجيش السورى وحلفائه، خاصة أن القوات السورية اقتربت كثيرا من دير الزور بعد تحرير معظم البادية الشرقية الواسعة، ولها حامية عسكرية داخل مدينة دير الزور ومطارها العسكري، ولا يمكن للقوات المدعومة من أمريكا أن تدخل المدينة من دون صدام بالقوات السورية، ولا بالطائرات الروسية التى تدعم زحف الجيش السورى وحلفائه لتحرير تلك المنطقة الإستراتيجية من تنظيم داعش.
اللافت أن هجوم القوات الكردية المدعومة بقوات أمريكية على مدينة الرقة قد توقف، فقد تعثر الهجوم، ولم ينجح فى طرد داعش من المدينة ذات الرمزية المهمة، لكونها كانت مركز انطلاق تنظيم داعش، واعلن الأكراد أن طرد داعش يحتاج لشهرين على الأقل، بينما كانوا يضغطون على واشنطن لإعلان تأييدها لإقامة دولة كردية، مقابل المشاركة فى الخطة الأمريكية للزحف على مدينة الرقة ومن بعدها المنطقة الحدودية مع العراق، لكن أمريكا لا يمكنها أن تمنح الأكراد وعدا علنيا، لأن هذا يعنى قطع الخيط الرفيع الذى يربطها بكل من العراق وتركيا، رغم الضغط الإسرئيلى على أمريكا لدعم انفصال الأكراد.
تدرك أمريكا أنها لا يمكن أن تحقق انتصارا عسكريا يغير موازين القوى فى سوريا حتى لو تحمس الأكراد للمشاركة، فكل القوات التى يمكن لأمريكا حشدها لا تكفى لمجرد دخول مدينة دير الزور، لكنها تراهن على مجرد وضع قدم ولو على جزء من هذه المنطقة لتكون ورقة ضغط ومساومة عند الدخول فى مفاوضات نهائية لحل الأزمة السورية، وأن تشترط إنهاء أى وجود عسكرى لحلفاء سوريا، خاصة إيران وحزب الله. ولمواصلة الضغط على التحالف السورى طلب ترامب من المخابرات الأمريكية تزويده بمعلومات تساعده على اتخاذ قرار بإلغاء الاتفاق النووى مع إيران، وفقا لصحيفة الجارديان البريطانية، فى الوقت الذى كثفت فيه واشنطن ضغوطها على الحكومة العراقية للابتعاد عن طهران، لتتجنب مشكلات يمكن أن تسببها للعراق فى الأوساط السنية والكردية، التى مازالت ترتبط بعلاقات وثيقة مع الولايات المتحدة.
وعلى عكس ما أعلنه ترامب فى حملته الإنتخابية فقد أرسلت الولايات المتحدة قوات إضافية إلى أفغانستان، بدلا من سحب ما تبقى من قوات، فى إشارة لإعتزام الإدارة الأمريكية الإبقاء على وجودها العسكرى القوى فى المنطقة، واتهمت أمريكا كلا من روسيا وإيران بمحاولة الإنفراد بترتيب الأوضاع فى أفغانستان، وفى هذا الإطار أعلنت تقليص المساعدات إلى باكستان، لأنها لم تفعل شيئا تجاه تمدد النفوذ الروسى والإيراني، بل شاركتهما فى الترتيبات التى استبعدت أمريكا.
سعى وزير الخارجية الروسى لافروف إلى امتصاص عاصفة الغضب الأمريكية، سواء بمد يد التعاون أو النقد اللاذع لأمريكا، واتهمها بأنها تواصل السعى لتفردها بالقرارات الدولية، وكأنها الدولة العظمى الوحيدة، لكن المحور الروسى لم يظهر أى مخاوف من التحركات العسكرية والدبلوماسية الأمريكية، ربما لأنها كانت متوقعة، فلا يمكن لأمريكا أن تظل مكتفية بدور المتفرح بينما يتم سحب البساط من تحت أقدامها، وكان عليها أن تكشر عن أنيابها لوقف التقدم الذى تحققه روسيا وحلفاؤها فى منطقة لشرق الأوسط وووسط وشرق آسيا، لكن مشكلة أمريكا أنها لا تجد الكثير من الحلفاء، بل تفقدهم تباعا، فأوروبا حانقة من السياسات الأمريكية، وترغب فى وضع حد للأزمة السورية سريعا، ولا تؤيد انفصال الأكراد أو إلغاء الاتفاق النووى مع إيران، أو جر الناتو لمزيد من الإنهاك فى أفغانستان، ولهذا تركت الولايات المتحدة وحيدة فى تلك المعارك، لأنها تدرك أنها معارك خاسرة، وأن الولايات المتحدة لن تستطيع إلا تقليص حجم خسائرها، فالزمن لن يعود إلى الوراء، وعليها أن تتعامل مع الواقع الجديد، الذى يعترف بظهور دول قوية لا يمكن هزيمتها عسكريا أو اقتصاديا، وأن الوقت قد حان للاعتراف بالتعددية الدولية، وانتهاء عصر الهيمنة الأمريكية، لكن بعض الأوساط فى واشنطن لا تريد أن تعترف بأن أمريكا قد هرمت، ولهذا أصبحت مثل عجوز تزيد من جرعة المساحيق لإيقاف الزمن
التعليقات