عماد المديفر 

يخطئ من يعتقد أن فخامة الرئيس التركي رجب أردوغان حينما حاول المساس تطاولاً بقامة سمو الشيخ عبدالله بن زايد آل نهيان -يحفظه الله- في مؤتمر صحفي الأربعاء الماضي، وما تلاه عبر حسابه الرسمي في تويتر بكلام أقل ما يوصف به أنه متشنج وغير محسوب العواقب، وخالٍ من أبجديات اللياقة الدبلوماسية، وما تلا ذلك من حالة «ردح» عبر الإعلام التركي، ليس تجاه الإمارات العربية المتحدة الشقيقة فحسب، بل وتجاه المملكة ورموزها وسياساتها وتاريخها، أقول يخطئ من يعتقد أن ذلك جاء كمجرد ردة فعل غاضبة لأجل «عيون فخري باشا» الجنرال العثماني، المشهور بوحشيته ودمويته، وجرائمه الموثقة في حق المدينة المنورة وساكنيها!..

أبداً.. إذ الأمر في مخيلة حزب أردوغان -وفق الوقائع والشواهد - أكبر من ذلك وأعمق، بحسب مؤشرات تحليل مضمون الخطاب الإعلامي الرسمي والصحفي الصادر عن تركيا، الذي يُظهر بشكل جلي علاقة دلالية تشي بأحلام يقظة تركية ليست بعيدة عن الأحلام الشيطانية الشريرة لنظام الولي الفقيه في طهران، أحلامٌ ألطف ما توصف به أنها تنم عن مراهقة سياسية، وعدم تقدير للمواقف وموازين القوى. في حين يرجع بعض المحللين، التصريحات التركية المرتبكة، إلى حالة الصدمة والذهول، التي لربما تنتاب صانع القرار، جراء انهيار مشروع ما سمي بـ «الشرق الأوسط الجديد»، وتحطم مشروع الفوضى الخلاقة، وما سمي بـ «الربيع العربي»، وبالتالي تعطل «الأدوار الكبيرة المناطة بتركيا» -بحسب وصف الرئيس التركي- والتي كانت مزمعة التنفيذ!

في الواقع، فقد جاء خطاب الرئيس التركي المتشنج هذا، كحلقة في سلسلة ممتدة من الاستهداف والدعايات المغرضة الصادرة بدايةً عن الإعلام التركي، ليس اليوم فحسب، بل منذ أكثر من عشر سنوات.. وتصاعدت وتيرتها مع اندلاع ثورات ما يسمى بـ «الربيع العربي»، ثم تصاعدت أكثر مع سقوط حكم تنظيم الإخوان المسلمين في مصر، وتصاعدت أكثر وأكثر مع كشف أوراق قطر وإظهار تورطها في دعم الإرهاب.. واليوم تعدى الأمر الحملات الإعلامية الدعائية، لتبلغ ذروتها مع خطابات رسمية، ومن ذلك ما نشره، على سبيل المثال لا الحصر، نائب رئيس الوزراء التركي «ميهمت سيمسيك» من بهتان، لامزاً به المملكة، عبر حسابه الرسمي في تويتر بتاريخ 21/ 5/ 2017م، فرد عليه فوراً حشد كبير من المواطنين السعوديين، وحين أتاه الرد من صاحب السمو الملكي الأمير عبدالرحمن بن مساعد بن عبدالعزيز سارع «سيمسك» بحذف تغريدته دون أي اعتذار..

إني هنا أتحدث عن وقائع وحقائق، فمن يتابع وسائل الإعلام التركية «الموالية» أو بالأحرى «التابعة» لحزب العدالة والتنمية الحاكم، والمؤتمرة بأمر، وأمر الرئيس أردوغان، الذي يفرض سطوته الأحادية التامة بقبضة حديدية على الحزب وعلى وسائل الإعلام الرسمية والموالية؛ سيجدها وصلت إلى الحضيض في لغتها وفي أسلوبها وهي تتهجم على المملكة وتاريخها وقيادتها وشعبها.. تماماً كما تتهجم على الشقيقة الإمارات، ورموزها وتاريخها وشعبها.. بحيث تتماهى تلك الوسائل الإعلامية التركية في خطابها مع الرسائل الصادرة عن أعداء المملكة، وسعيهم الفاشل للإساءة إلينا، ومحاولاتهم البائسة في نشر الفتنة والكذب والهراء والإسفاف.

ولست هنا أتحدث إلا بوصف موضوعي لما يجري من وقائع، ومن ذلك مثلاً ما ينشره باستمرار المدعو «إبراهيم قراقوز» أو «قراقول» رئيس تحرير صحيفة «يني شفق»، المقربة من أردوغان،والمدعومة من حزبه، وليس آخرها مقالته الوقحة الأربعاء الماضي بعنوان «الدفاع عن المدينة المنورة وخونة ذلك اليوم: مشروع الخلافة الجديدة وخائنو اليوم»، وفيها قام بتخويننا، وتخوين أجدادنا، مدعياً أننا وأراضينا المقدسة مرتهنون للغرب! ومبشراً بـ «خلافة» تركية جديدة تحرر الأراضي المقدسة! وهو يقصد بذلك إعادة الاحتلال العثماني لمكة المكرمة والمدينة المنورة.. وقبلها مقالته في افتتاحية صحيفته: «الذين سرقوا القرن العشرين من العرب، يريدون سرقة القرن 21 الآن».. وفيها إعلان صريح باستهدافنا والعداء لنا. ولعلي في مقالة قادمة أعرض على القارئ الكريم تحليل مضمون لتلك المقالات، ولغيرها، ودلالاتها.. والتي تأتي قي سياق منتظم، ضمن الحملة الدعائية التركية المتواصلة والمخططة، والتي تقوم على استهدافنا من جانب، وعلى تزوير التاريخ، وتزيين وجه الاحتلال العثماني البشع الذي رزحت تحته العديد من الأراضي العربية منذ القرن الثالث عشر الميلادي، وحتى القرن التاسع عشر.. تلك الفترة السوداء من تاريخ العرب والمسلمين، التي تعتبر فترة الانحطاط الحضاري والفكري في تاريخ العرب على الإطلاق، من جانب آخر.

هذه الحملة، تتصاعد مع خطابات تركية دعائية شعبوية تجاه مدينة القدس من رأس هرم الدولة، رغم ما يعلمه الجميع من حقائق على الأرض، حول العلاقات الدبلوماسية والسياسية والاقتصادية والتجارية والعسكرية الممتازة بين تركيا ودولة الاحتلال الإسرائيلي، هذه العلاقات التي لم تتأثر بتاتاً جراء اعتراف الولايات المتحدة الأمريكية بالقدس عاصمة لإسرائيل.. بل إن تركيا -وبحسب الوثائق- كانت قد اعترفت ضمناً بالقدس عاصمة لإسرائيل! حتى قبل الولايات المتحدة، كما كشفت ذلك اتفاقية التطبيع الإسرائيلية التركية الموقعة عام 2016م. واليوم، وفي ذات الوقت الذي تستمر فيه العلاقات التركية الإسرائيلية الودية والمتميزة، وتمر في أحسن حالاتها، وهو ما يعكسه مؤشر حجم التبادل التجاري بين البلدين، ومركز تركيا المتقدم في الاقتصاد الإسرائيلي، وكذلك الأمر في مؤشرات التعاون العسكري، يحاضر علينا الرئيس أردوغان -ذو الوجهين- عن القدس! ويتجاوز موضوع القدس، بكل صفاقة، للحديث عن عدم القدرة على حماية مكة المكرمة والمدينة المنورة!! ! بشكل يكشف حقيقة نواياه..

أما وقد تطور الأمر إلى أن ينخرط رئيس الجمهورية التركية رجب أردوغان نفسه علانية في هذا الخطاب الإعلامي الوقح، رغم مبدأ «التقية» الذي تربت عليه تنظيمات الإسلام السياسي، ثم يرسل رئيس الوزراء «يلدريم» أو غيره لتلطيف الأجواء، وامتصاص الغضب كعادتهم، فإني كسعودي غير معني بهذه المحاولات الكاذبة للتراجع عن الإساءات.. بل معني بمن أساء لي ولدولتي وقيادتي وتاريخ أجدادي. وهذه الاعتذارات التركية إن حدثت لا قيمة لها عندي، حتى أرى اعتذاراً واضحاً في الإعلام التركي، ومن رأس هرم السلطة فيها، وتعديلاً لذلك المسار الوقح، فكل المؤشرات تقول بأن تلك الحملة الإعلامية المسيئة، مخططة ومقصودة من أعلى هرم السلطة في أنقرة. إلى اللقاء