رضوان السيد

توفي في المدة الأخيرة أربعة مثقفين مصريين كنتُ على معرفةٍ جيدةٍ بهم؛ وهم: جمال الغيطاني، الروائي المشهور الذي توفي قبل أكثر من عام. وصلاح عيسى، الذي توفي قبل أيام. وإبراهيم نافع رئيس مجلس إدارة الأهرام ورئيس تحريرها لمدةٍ طويلة، والسيد ياسين الذي توفي قبل أشهر.

إبراهيم نافع كان يقول لي ضاحكاً: أنا أكبر من مثقف، أنا صحفي! ولستُ أدري ماذا كان همّه أو مركز اهتمامه، لكنه في الظاهر ومع زملائه كان بالغ الحرص على أن يبدو شديد الاحترام لشخصه ولمهنته باعتباره رئيس التحرير لأهم صحيفةٍ عربية. وكنتُ أسمع كثيراً عن الفوائد التي تدخل على من يتولى رئاسة تحرير إحدى الصحف المصرية وبخاصةٍ «الأهرام». لكنه كان يقول لي: كلها مبالغات، ونحن نتحمل أعباء مسؤوليات ومهامَّ لا تترك لنا شيئاً! وشعرت بالخجل من أجله لأنني كنتُ أحبه، مرتين: مرة عندما كان يطلب من الرئيس رفيق الحريري الاشتراك في مشروع سكني بمصر، والحريري يمزح معه ويقول: عندك ثلاثة مساكن بمصر، فما الحاجة إلى مسكنٍ رابع؟! أما المرة الثانية فعندما اتُهم بالتربُّح بعد ثورة يناير. رأيته في بلد آخر مع آخرين، وقد بدا عادياً، لكن عندما انفردت به بكى وقال: لقد أردتُ دائماً أن أكون محترماً فلم أستطع، ولا أريد الاعتذار بفساد المحيط، فكلها تبريرات لا تغني عن الحق شيئاً! وبعد هذا العمر الطويل لا أظن أنّ الثراء كافٍ لإعطاء الحياة معنى!

صديقي السيد ياسين كان بالطبع أكثر انشغالاً بمعنى الحياة. لكنّ هذا المعنى تنقّل لديه خلال أكثر من ثلاثين عاماً. فعندما تعرفت عليه في السبعينيات كان مهتماً بمصريته وعروبته وكرامته الوطنية والقومية. وكان يعتبر عمله العلمي بمركز الأهرام شديد الأهمية من حيث تأثيره على مستقبل الوطن، وصُنّاع القرار. لكنه منذ التسعينيات وحتى وفاته صار همه أن يكونَ طليعةً للمثقفين وخبيراً في شؤون العولمة. وكان يتابع بالفعل كل جديد في هذا المجال والمجالات المجاورة. وعندما حدثته مرةً عن همومي ومشروعاتي، ابتسم وقال: دع عنك الماضي والأماني، وركِّزْ على المستقبليات كما أفعل أنا. وبالفعل فقد ظلَّ ممتلئاً بنفسه وهمه العولمي حتى وفاته، دونما أدنى شك في جدوى ما يقوم به.

وما عرفتُ صلاح عيسى عن كثب، لكننا كنا نتبادل الإعجاب من بعيد على اختلاف آرائنا في كل شيء تقريباً. كان صلاح عيسى قومياً يسارياً، بيد أنّ ذلك ما كان أبرز ما فيه، بل مناطُ همه: إغاظة الخصوم بكشف الأخبار المستورة، أو الوصول إليها بالتأويل أو التحقيق الدقيق. وكان يسر أشدّ السرور عندما يعرف أنّ فلاناً انزعج من هذا التحليل أو ذاك. وكان محمد حسنين هيكل مناط إعجابه وسخطه. وقد قلتُ له مرة: لكنّ إغاظة الآخرين لا تكفي لتشكيل معنى للحياة! فأجاب: لكن هذه الإغاظة ليست عبثية، بل هي تنطلق من قناعات وطنية وقومية ويسارية وإنسانية. فأنا أرضي هذه القناعات عندما أحمل على مَنْ أرى أنه انحرف عنها! وقد صار صديقاً للسلطة بعد طول جفاء، وقال لي: لقد أفدتُ كثيرين نتيجة الاقتراب من الجهات السلطوية. لكني لستُ راضياً تماماً، لأن ذلك يخالف مزاجي، وأظن أنّ السؤال عن معنى الحياة كبير وثقيل وربما كان قليل المعنى أيضاً، فالحياة الإنسانية ينبغي أن تكون هدفاً بحد ذاتها!

وقد كان جمال الغيطاني أحبَّ الأربعة إليّ. وما ضاهاه أحدٌ عندي من المصريين غير جابر عصفور ونبيل عبد الفتاح. عندما عرفته في السبعينيات، كان عنده همان: علاقته بنجيب محفوظ والسير على خطاه في الإبداع الروائي، واستعادة كرامة مصر (وبالتالي كرامته هو شخصياً) في حرب أكتوبر عام 1973. ثم تزايد اهتمامه بفنه في الثمانينيات والتسعينيات حتى صارت الجلسات معه متعبة، لتكراره الكثير من عُقَد الروايات والشخصيات، ونقاشاته النظرية الناضجة لمسألة الرواية التاريخية، وللخلود الشعبي المصري. لقد صار في سنواته الأخيرة متوحداً في الشعب المصري بل يعتبر نفسه بعداً من أبعاده! لذلك ما كان عنده همٌّ كبيرٌ بشخصه بعكس الأصدقاء الثلاثة الآخرين. وكانت تعجبني فيه مروءته، وشغفه بالقراءة لكل جديد؛ حتى في المجال الديني. والغيطاني كان أكثر الأربعة اقتناعاً بأن كل إنسان ينبغي أن تكون عنده «رسالة» تهبه إنسانيته. وكان يقول لي أحياناً: إن رسالته السرية هي قضية فلسطين. ثم يتابع: لكنْ لماذا السرية، فقد كانت القضية قضية الجميع في الجيل الماضي، ثم تلهّينا عنها بألف مشكلةٍ ومشكلة؛ فلنعد إليها لنستعيد إنسانيتنا!