د. منى فياض

تمكن الخميني من تحويل إيران إلى دولة شيعية تحت راية “الولي الفقيه”، فوظفت “إيران الثورة” الخوف من القهر والحرمان عند الشيعة العرب الذين كانوا مهمشين، واستخدمت شيعيتها من أجل خلق نواة عصبية حولها. قامت باستغلال أهم قضية عربية، سنية الطابع، أي القضية الفلسطينية، فساعدها هذا التوظيف على إظهار إسلاميتها من أجل التخفيف من أثر استخدامها لشيعيتها تلك. أصبحت المزايدة بشعار تحرير فلسطين أداة لكي ترفع عنها تهمة الفارسية ولكي تعبث بالقضية ولقد شكّل زمن الانحطاط العربي أفضل غطاء لمناوراتها.

منذ نجاح الثورة أرسلت مبعوثيها إلى لبنان؛ لكن مسيرة “حزب الله” الفعلية بدأت مع احتلال لبنان عام 1982، ما أعطى إيران الفرصة لكي تلعب في المساحة الفارغة المستجدة، مستخدمة موقعها العقائدي وأموالها لتقوية مرجعيتها الدينية الشيعية المنافسة لمرجعية النجف العربية. قدمت إيران نموذجا ثوريا للشيعة العرب ظلت أهدافه متوارية حتى بدأ بالتكشف أكثر وأكثر مع الثورات العربية وخاصة في سوريا.

زوّرت ممارسات “حزب الله” هوية وشخصية لبنان التاريخية منذ وجوده وأدت إلى اهتراء الدولة.
تشكل “حزب الله” كقوة ونموذج في سياق الثورة الفلسطينية والمقاومة والممانعة في العالم العربي ليرث الأجواء القومية واليسارية التي طبعت ما عرف بالحركة الوطنية وتشكلت بغالبيتها من المسلمين اللبنانيين. وكانت الحرب الأهلية (وخاصة عمليات التطهير الديني ـ العنصري في “النبعة” و”تل الزعتر” و”المسلخ” وضواحي بيروت الشرقية والشمالية)، قد دفعت بآلاف العائلات الشيعية للعودة إلى قراها في الجنوب اللبناني والبقاع وإلى منطقة الضاحية الجنوبية لبيروت التي توسعت وامتدت بوتيرة هائلة وتميزت بانخراط أولادها الحزبيين الغاضبين في تنظيمات الحركة الوطنية وأحزابها والمقاومة الفلسطينية كمقاتلين بأعداد غفيرة. الأمر الذي سمح بتوسع وامتداد واستمرار السيطرة الفلسطينية على الجنوب حتى العام 1982.

هذا مع العلم أن الأكثرية الساحقة من الشيعة اللبنانيين في التاريخ القريب ناصرت جمال عبد الناصر لأنه وحدوي. فعروبة الشيعة هي السيرورة البديهية لجذورهم وثقافتهم ولغتهم وعشائرهم وعائلاتهم… وهي لم تتعارض مع لبنانيتهم اللاحقة عند تأسيس الكيان والتي كان الإمام عبد الحسين شرف الدين أبرز من عبّر عنها. لا شك أن “حزب الله” بدا للبعض لاعبا إيجابيا في تسعينيات القرن الماضي لجهة إعطائه نموذجا مقاوما مختلفا عما خبرته حركات التحرير السابقة وتوجت هذه المرحلة بالتحرير الذي حصل في العام 2000. لكن دوره الأهم كان في تلبية احتياجات سكان الجنوب، والشيعة بينهم أساسا، لملء الفجوات الخدماتية والإنمائية في ظل تقصير الدولة على الصعيد الأمني والسياسي والإنمائي من ضمن سياسة تهميش الأطراف وهي سمة سائدة في النظام اللبناني.

تشكلت “المقاومة الوطنية” بعد احتلال إسرائيل للبنان وتمركزها لاحقا في الجنوب. انطلقت من بيروت. لكن هذه المرحلة تمخضت في نهاية الثمانينيات عن حصر العمل العسكري بأيدي “حزب الله” بضغط سوري وإيراني مباشر. نتج عن ذلك مشروعية وطنية وشعبية للحزب وليس فقط في بيئته، بل شملت لبنان ومختلف الأوساط والطوائف وصولا إلى العالم العربي وذلك حتى الانسحاب الإسرائيلي في العام 2000. حرص الحزب، بتمويل ودعم إيرانيين، على توفير شروط التفاف مختلف أنواع البيئات الاجتماعية المحلية حوله عبر الخدمات المتنوعة وعبر العمل على إنشاء مؤسسات من كل نوع: ثقافية وصحية وتربوية ورياضية وكشفية وترفيهية وخصوصا عسكرية ودينية من منظار تعبوي عقائدي مؤدلج. جهازه التربوي اسمه “التعبئة التربوية”، ينشأ فيه الأطفال كجنود و”شهداء” للمستقبل.

أقام الطقوس والعادات والممارسات والتقاليد الجديدة كل الجدة في الأوساط الشيعية التقليدية ما أنتج احتكاكات مع الجيل القديم. اخترع مناسبات وتواريخ دينية واجتماعية مستوردة تشغل معظم أيام السنة؛ وتعود جميعها إلى الحضارة والثقافة الإيرانية ذات السمة الفارسية الغالبة ليجعل منها محور الحياة اليومية وأحد المكونات لثقافة وشخصية شيعية محوّرة ومعدّلة، سالخا عنها محيطها الثقافي اللبناني. أبعد ذلك شيعة “الحزب” عن ثقافتهم المعتدلة التقليدية وعن عاداتهم وتقاليدهم المتسامحة بفعل انتماءهم العضوي إلى عروبتهم وولائهم إلى الهوية اللبنانية التعددية. سياسة “حزب الله” أبعدتهم عن هذه الثقافة وجعلت الممارسات الإيرانية ـ الفارسية المرجع الوحيد في الحياة والآخرة.

ساعدت الأموال الإيرانية “حزب الله”؛ كما استفادت مؤسساته المختلفة من الدعم الذي تقدمه الدولة اللبنانية عبر وزاراته، لتقديم خدمات منوعة باسمه مضافة إلى التعويضات المبذولة لأهالي “الشهداء” والضحايا في تشغيل الآلاف من الأيدي العاملة.
أدى ذلك إلى ارتباط أجيال وبيئات عدة به، وقد وجدت أنه المدافع الوحيد عن مصالحها ومصدر رزقها. انتهى الأمر بوضع “حزب الله” يده على البلديات، فسعى لمنع الاختلاط وتحريم المشروبات بعد أن كان في الماضي منع الاحتفالات في المناسبات والأعراس، ورمي الأسيد على النساء غير المحجبات، مع ضرورة الملاحظة أن ذلك يتعارض مع الدستور والقوانين اللبنانية.

يتبع “حزب الله” أسلوب “خطوتان إلى الأمام وخطوة إلى الوراء”، أي أنه ينفذ محاولاته على دفعات وعلى شكل بالونات اختبار من أجل اكتشاف ردة فعل الناس ومدى قبولها بانتظار اللحظة المناسبة لفرضها. أعاد نائب الأمين العام لـ”حزب الله” الشيخ نعيم قاسم منذ فترة وجيزة التذكير بأن لهم الحق في العمل دائما لإقامة الدولة الإسلامية في لبنان وغيره، بعد أن نفى الحزب ذلك على لسان مسؤوليه، وعدل شعاره من “الثورة الإسلامية في لبنان” إلى “المقاومة الإسلامية في لبنان”.

أدّت الممارسات السابقة إلى إيجاد مراكز سلطة رديفة أمّنت الأرضية المناسبة لبروز ثنائية وازدواج في السلطة بين الدولة من و”حزب الله”، باسم “المجتمع المقاوم”، والمصوّر بطائفة أو بجزء منها عمليا. فالمعادلة المفروضة على اللبنانيين، تحت شعار “الجيش والشعب والمقاومة”، عملت على ترسيخ الخصوصيات الأمنية والعسكرية وتوسيع المربعات الأمنية المحظورة على سلطات الدولة اللبنانية فجعلت من “الحزب” وتحت شعار المقاومة الفضفاض، سلطة أمنية عسكرية موازية بامتياز، وهذا كله مصدر تراكم لبؤر تفجير مستقبلية؛ بدأت تؤتي مفاعليها اليوم.

مؤخرا، تخلى “حزب الله” عن حيطته وحذره وجاهر بوضع يده على الدولة.
يتحكم الحزب بالإدارة السياسة للبنان؛ عبر السلطة التنفيذية والإدارات والأجهزة الأمنية والاستخباراتية الرسمية بشكل شبه كامل. صارت هذه مع ذلك عاجزة اليوم عن اعتقال مطلوب حقيقي في الضاحية الجنوبية من دون إبلاغ أجهزة الحزب وأخذ الإذن منها، بينما يقوم الحزب بالقبض على بعض المواطنين من دون العودة إلى مرجع رسمي أو قانون أو قضاء. كل هذا يفرغ الدولة ويضعفها في الوقت الذي يكرر فيه نصرالله مقولته “أقيموا الدولة العادلة لنسلمكم سلاحنا”! بينما يمنع قيام هذه الدولة يوميا. الآن لم يعد من يذكر السلاح بأي كلمة.

دأب نصرالله على تقديم ما يقوم به سواء على الصعيد السياسي أو الاجتماعي على أنه “تضحيات مرغم عليها” وجعل “حزب الله” من ممارساته السياسية الداخلية قضية “جهادية” يخوضها باسم “المقاومة المقدسة”، غافلا عن أنه عندما يقوم بذلك يحمّل المقدس ما لا يحتمله ويسيء إليه.
مؤخرا، تخلى “حزب الله” عن حيطته وحذره وجاهر بوضع يده على الدولة، في مقابل أوضاع القوى السياسية الحاكمة المتضعضع.

وهذا ما زوّر هوية وشخصية لبنان التاريخية منذ وجوده وأدى إلى اهتراء الدولة.
كل ذلك يحمل عوامل تؤجج مشاعر الغبن والضغينة عند الطوائف المهمشة والمقموعة ويضعها أمام تحديات وجودية.
تغذي هذه المعادلة احتمالات انفجار العنف وتهدد السلم الأهلي الهش وعلينا الآن مواجهة خطر قيام إسرائيل بعملية عسكرية في لبنان بعد أن وجدت في أنفاق “حزب الله” مبررا غطاء دوليا لهذه العملية..

&

موقع الحرة&