أمينة خيري 

قبل سنوات قليلة كانت مهمة البحث والتنقيب والمشاهدة والتحليل والعرض، والمساءلة ملقاة على عاتق جمعيات وجماعات وأفراد كانت تسمي نفسها «ناشطة» أو «محللة» أو «في نطاق تخصص عملها». ففي أعقاب ثورة كانون الثاني (يناير)2011، ظهرت على الساحة ما عُرف بـ»قوائم الإعلاميين السود»، وهي القوائم التي دخلت كل بيت مصري فيه جهاز تلفزيون، وغيره من البيوت العربية المتابعة للشأن المصري الإعلامي والسياسي.

مواقف الإعلاميين السياسية قبل ثورة كانون الثاني 2011 لم تكن شديدة التباين أو متعددة الدرجات. كان هناك الإعلاميون الداعمون للنظام المناصرون له المحللون لكل أفعاله وتصرفاته وسياساته، ربما بدرجات خفيفة من الانتقاد بين الحين والآخر، وكان هناك إعلاميون قليلون تبدو عليهم أمارات المعارضة، وتلوح من بين كلماتهم علامات عدم الرضا ولكن بتحفظ شديد وحرص أكيد.

واندلعت ثورة كانون الثاني ليتفرغ بعض الناشطين – مؤسسات وأفراد – لعمل قوائم سود، أطلق عليها بعضهم «قوائم العار»، تحوي أسماء الإعلاميين المدافعين عن النظام السابق. وتم تداول هذه القوائم تداولاً محموماً حتى باتت الأسماء معروفة لدى الجميع، بمن فيها أسماء إعلاميين لم يحظوا بشهرة كبيرة بين المشاهدين أثناء عملهم.

وظهرت صرعة سرعان ما انتشرت بين القنوات الفضائية المصرية والعربية، وهي تخصيص فقرات للحديث عن الأسماء الواردة في قوائم العار السود. وقد اعتمدت هذه الفقرات على سلخ أصحاب الأسماء الواردة في القوائم من خلال ضيوف «ثوريين». ووصل الأمر لدرجة تحول بعض هذه الفقرات إلى محاكم على الهواء مباشرة، حيث يتم استضافة صاحب الاسم في الاستوديو أو عبر مكالمة هاتفية، ثم يجري توجيه اتهامات العار له أو لها. وبين الاتهامات الموجهة من قبل ممثل النيابة ألا وهو الضيف الثوري ومحاولات المتهم الدفاع عن نفسه، تارة بتبرير انتمائه وأخرى بتعليل تأييده وثالثة بالإصرار على موقفه من أن النظام السابق كان على حق، تحولت فقرة قائمة العار السوداء إلى الأكثر مشاهدة. بل شكلت موضوعاً لـ30 حلقة رمضانية تدور فكرتها حول قوائم العار الإعلامية على سبيل الجذب والإشارة والتشويق ورفع نسب المشاهدة.

مشاهدة هذه الفقرات هذه الأيام أشبه بالنبش في القبور. فبعدما كانت الأكثر مشاهدة، والأكثر تعليقاً تحولت إلى تراث منسي وذكريات يفضل كثيرون نسيانها وتجاهلها. فما كان نظاماً ديكتاتورياً كريهاً سيئاً قبل سنوات قليلة، لم يعد بهذا السوء. كثيرون وجدوا أنفسهم قادرين على إيجاد جوانب إيجابية ونقاط مضيئة جعلتهم يقدرون إلى حد ما مواقف إعلاميي قوائم العار.

لكن حال الشاشات، وما تنضح به من محتويات وتوجهات، لا تبقى دون حراك وتغييرات. وبعدما أمضت جماعات وأفراد وقتاً وجهداً لتجميع لقطات ومشاهد وآراء لهؤلاء الإعلاميين وتداولها عبر مواقع التواصل الاجتماعي بغرض توضيح مواقفهم الكارهة للثورة قبل أن يتحولوا ثوريين، والداعمة لمبارك قبل أن يصبحوا معارضين، والمؤيدة لنظامه قبل أن يذيّل بنعت «سابق»، تسلم زمام عملية التنقيب والتجميع والتحميل مشاهدون عاديون، وذلك كل بحسب توجهاته وانتماءاته السياسية.

السياسة التي أصبحت الوجه الآخر للشاشات، وانشغالاً يومياً لملايين المشاهدين العاديين، جعلت البعض يغوص في أعماق ما تبثه الشاشات باحثاً عن مواقف ملتبسة هنا، وآراء متناقضة هناك، وانتماءات منافقة هنا وهناك. وفي أجواء الانتخابات الرئاسية المصرية وما تحمله بين طيات تفاصيلها من كم هائل من التسييس والأدلجة والاستقطاب والمعارضة وتصنيف كل من لا ينتمي للفكر والتوجه ذاته باعتباره «خائناً» أو «عميلاً»، بات المشاهدون، المحتقنون سياسياً والمشحونون أيديولوجياً، يمضون وقتاً في استعادة هذه المقاطع والإضافة لها في ضوء تطورات السنوات الثلاثة والنصف الماضية، وتحديداً منذ تم انتخاب الرئيس عبد الفتاح السيسي رئيساً لمصر.

قطاع كبير من محبي الرئيس وداعميه والمؤمنين أنه وحده من يصلح لرئاسة مصر في السنوات الأربع المقبلة، يتداولون في ما بينهم مثل هذه المقاطع المضاف إليها زغاريد أطلقوها في الاستوديوات في ثورة 30 حزيران (يونيو)، المطالبة بالإطاحة بـ»الإخوان»، وأخرى شاركوا فيها عقب الإعلان عن فوز الرئيس السيسي في انتخابات الرئاسة في عام 2014، والمذيلة بانتقادات يوجهونها له حول المشهد السياسي الراهن، أو تحميله مسؤولية عدم وجود مرشحين على الساحة، دون إشارة إلى دور الأحزاب السياسية الميت أو حراك الشخصيات الناشطة الخامل.

وعلى رغم أن النسبة الأكبر من الإعلاميين، الجاري التنقيب حالياً في أرشيفهم من قبل مشاهدين، مؤيدين للنظام الحالي محسوبين على النظام نفسه، فإن جهود هؤلاء المشاهدين تلمح بخبث إلى انقلابهم على النظام وإعادة توجيه ولائهم نحو آخرين.

آخرون لا يؤيدون النظام الحالي ومنتقدون للوضع السياسي الراهن يضعون كل إعلاميي الشاشات حالياً في سلة واحدة، إما موالية للنظام أو مجبرة على الولاء له. هؤلاء المشاهدون لا يرون في ارتفاع نبرة الاعتراض والانتقاد لدى بعض الإعلاميين إلا «مسرحية» متفق عليها بينهم وبين النظام الحالي، وينص السيناريو فيها على أن يلعبوا دور المعارضة حتى يبدو وكأن الشاشات متعددة الأصوات. أولئك المشاهدون أعادوا التنقيب عن المشاهد والمقاطع المجمعة لأولئك الإعلاميين ويعيدون مشاركتها على مواقع التواصل الاجتماعي، ولكن دون الإضافات الجديدة التي تحوي قليلاً من الانتقاد وبعضاً من الاعتراض، وذلك للتذكير أن من كان مؤيداً ثم أصبح ثورياً ثم عاد وبات مؤيداً ثم يحاول أن يصبح ثورياً مجدداً، ما هو إلا إعلامي لا يستحق المشاهدة.

وفي خضم حرب الفيديوات المجمّعة المستعيدة لقوائم عار الأمس، وتلك المحدّثة التي تعيد البعض ممن خرج منها إلى قوائم عار جديدة، تتصاعد سجالات كلامية جديدة وتلويحات شعبية حديثة منذ عاد الإعلاميان إبراهيم عيسى ومحمود سعد ليطلا من جديد عبر الشاشات قبل أيام. ويعكس محتوى هذه السجالات بين المشاهدين حالة الاستقطاب الشديدة والحامية في المجتمع. فريق مؤيد للنظام الحالي بشدة يرى في عودتهما خطأ كبيراً، وذلك لأنهما معروفان بالمعارضة ومحسوبان على ثورة كانون الثاني التي أصبح كثيرون ينظرون إليها باعتبارها نقطة سوداء في تاريخ مصر الحديث.

الغريب أن الفريق الآخر المعارض للنظام الحالي الذي كان يشكل قاعدة عريضة من قواعد المشاهدة للإعلاميين المذكورين غاضب من عودتهما، على اعتبار أن أصول المعارضة الحقيقية كانت تحتم عليهما الاحتجاب والامتناع عن الظهور إلى أن يتم التغيير المرجو.

وفي وسط هذه الأجواء المشحونة بالتنقيب في أغوار الفضائيات، وتجميع مواقف وتوجهات الإعلاميين للتشهير بهم وتعضيد الموقف السياسي لكل فريق حسب انتمائه، يتضاءل حديث المهنية وينزوي جانباً القلق على أصول وقواعد العمل الإعلامي، حيث يكاد لا يُسمع صوت مطالب بالبعد عن التحيز وتجنيب التسييس والاحتفاظ بالتوجهات بعيداً من الشاشات، والاكتفاء بعرض المعلومات وتحليل ما هو قابل للتحليل وترك المشاهد يبني رأياً ويُكوّن توجهاً ويحسم اختياراً على هذا الأساس.

الأصوات الوحيدة من أمام الشاشات هي تلك المحبة أو الكارهة لهذا الإعلامي أو ذاك لأنه مؤيد أو معارض. أصبحت قوائم العار السود مهمة المشاهدين كل حسب انتمائه