وحيد عبد المجيد
إيطاليا هي الحلقة القادمة في سلسلة تمدد التيارات القومية المتطرفة في أوروبا. تفيد استطلاعات الرأي أن شعبية هذه التيارات تزداد عشية الانتخابات النيابية التي ستُجرى في 4 مارس المقبل. يمكن أن تحصل الحركات والأحزاب القومية المتطرفة على نحو 45% من أصوات الناخبين. وكان إطلاق عضو بإحدى هذه الحركات «رابطة الشمال» النار على ستة مهاجرين أفارقة في مدينة ماتشيراتا في 3 فبراير الجاري أحدث مؤشر على أخطار تمدد هذه التيارات.
ورغم أن القوميين المتطرفين في إيطاليا الآن يختلفون عن الفاشيين الذين حكموها بقيادة موسوليني بين 1924 و1943، وساهموا مع النازيين الألمان في إشعال الحرب العالمية الثانية، يظل تمددهم على هذا النحو تحولاً نوعياً سيكون له أثر كبير يتجاوز حدود إيطاليا. وسيؤثر هذا التمدد في أوروبا عموماً، وسيكون مصدراً جديداً لتهديد الاتحاد الذي يجمع دولها، وليس مستبعداً أن يساهم في خلق موجة من التطرف المضاد، وإعطاء ذريعة جديدة للإرهاب في الشرق الأوسط.
والحال أن التطرف القومي يُعرقل التطور الطبيعي للدول والمجتمعات، مثله في ذلك مثل التطرف الديني والمذهبي.
غير أنه ليس كل القوميين متطرفين. فالاتجاهات القومية موجودة في معظم أنحاء العالم، وهي تنقسم إلى نوعين. أحدهما يعبر عن زهو بالثقافة القومية، وفخر بها، واعتقاد بأفضليتها. وغالباً ما تكون الاتجاهات القومية ذات التوجهات الثقافية على هذا النحو معتدلة في مواقفها تجاه الآخر. أما النوع الثاني فيعبر عن نزعة استعلائية تتفاوت في حدتها حسب مدى الاستغراق في الفخر بالانتماء إلى جنس أو عرق، ويؤدى إلى مواقف متطرفة تجاه الآخر.
وتجمع الاتجاهات القومية المتطرفة الصاعدة في أوروبا منذ سنوات بين التوجهين الثقافي والعرقي، وتتخذ مواقف متشددة في الأغلب الأعم لكن على المستوى السياسي أكثر منه على صعيد التفوق العرقي، بسبب اقترانها بحالة غوغائية تعمد إلى استثارة مشاعر قومية وتضخيمها، وتسعى إلى الحصول على تأييد من أوسع قطاعات ممكنة في المجتمع.
ويرتبط صعود هذه الاتجاهات، في أحد أهم أبعاده، بتراجع النموذج الثقافي الغربي القائم على التنوير والحداثة، وضعف قدرته على الاستجابة لتحديات كبرى يُختلف على تحديد بدايتها. لكن القدر المتيقن أن النموذج التنويري الحداثي دخل في حال ركود بعد أن بدا أنه تجاوز التهديد الذي نتج عن صعود النموذج الفاشي، مدعوماً بقوة عسكرية في الحرب العالمية الأولى. وأوحت نتائج الحرب العالمية الثانية للغرب بأن نموذجه الثقافي هو الأفضل والأقدر على الاستجابة لحاجات العالم، بعد أن أخذ المهزومون به كاملاً في ألمانيا (الغربية وقتها) أو ممتزجاً بالتراث وقيمه في اليابان. وبدا أن هناك يقيناً بانتصار هذا النموذج على التحدي الشيوعي في مرحلة الحرب الباردة 1945 –1990. وساهم انتشار صيغة ديمقراطية للاشتراكية، وإسهامها في تهذيب النظام الرأسمالي، في تعزيز اليقين بأن النموذج التنويري الحداثي لا يُعلى عليه.
كما أعطت نهاية الحرب الباردة وهزيمة الشيوعية، ثقة لأنصار هذا النموذج في نسخه المختلفة، إلى حد أن بعضهم اعتبره «نهاية التاريخ» مثل فرانسيس فوكوياما في كتابه المشهور الذي حمل هذا العنوان. ولم ينتبه كثير من أنصار هذا النموذج إلى أنه يمكن أن يتداعى من داخله في حالة اهتزاز قيمه الأساسية المرتبطة بالتنوع الديني والمذهبي والعرقي، على نحو ما يحدث الآن في ظل تمدد التيارات القومية المتطرفة.
ورغم هشاشة أفكار هذه التيارات، فهي تستمد قوتها من الجمود السياسي الذي يصيب المؤسسات الديمقراطية في الدول الغربية، ويؤدي الجمود إلى إضعاف أداء هذه المؤسسات، حيث تقل قدرة الأحزاب والنخب التقليدية على تجديد خطاباتها التي تنحسر الفروق بينها، فتبدو متقاربة ورتيبة وخالية من الرؤى الملهمة، وعاجزة عن ضخ دماء جديدة واستيعاب أجيال صاعدة.
ولذا لا تجد التيارات القومية المتطرفة الصاعدة صعوبة كبيرة في التمدد في المساحات التي فرَّغها الجمود السياسي، عندما تبحث قطاعات متزايدة من المواطنين عن بديل يجده بعضهم في هذه التيارات.
التعليقات