فوزية أبو خالد
لفت نظري في محطة إم إس إن بي سي الأمريكية وأنا أعبر قاعة أحد الأماكن العامة بنيويورك صور دامية لمجموعة من المخيمات تعرض انعكاسات الحرب الوخيمة على الأطفال والنساء والشعوب من فقدان الأطراف وسوء التغذية وتفشي الأمراض وكل ما يرتبط بنتائج الحروب من ويلات الفقر والحاجة والذل, فوقفت لاستطلاع المشهد لاكتشف أنه برنامج يتحدث عن إنسانية دولة العدو الصهيوني من خلال استعراض مساعدة حملات تطوعية أهلية تحمل اسم ينابيع الأمل تقوم بهتك حال المخيمات أمام الكاميرات لتتباهى بمساعدات بعض ضحايا الحرب على العراق.
هذا في الوقت الذي تمر فيه على أرض فلسطين منذ الثلاثين من شهر مارس إلى اليوم نهاية شهر أبريل مذبحة مفتوحة جديدة من المذابح التي يرتكبها جيش العدو الإسرائيلي يومياً في حق الشعب الفلسطيني وليس من يشعر بحجم فداحة الحرب المستدامة على الشعب الفلسطيني ما يزيد اليوم على سبعين عاماً أي منذ احتلال فلسطين وسحل أهلها خارج أرضهم عام 1948م رغم ما تغيّر جذرياً على مستوى تقني دولي من وسائل التبليغ والاتصال بما لم يعد فيه حجة لأي كان بأن يقول لم نعلم بما يجري من جرائم في حق أي شعب يتعرض لجريمة الحرب ولو كان في أقصى نقطة في العالم أو في سابع أرض.
ليست الدول العظمى وحدها وليس الإعلام الرسمي وحده فيها من يقوم بمثل هذا التجاهل لجرح الشعب الفلسطيني النازف إن لم يشارك بكل وسائل الدعم لدولة العدو الإسرائيلي في استجراحه وصب البنزين على مصباته، بل حتى مواقف الدول الكبرى عبر منظمة الأمم المتحدة التي يفترض فيها الحياد نراها بينما تترك المنظمة تلاحق بالفضح الإعلامي وبمحاولة الإدانة الدولية للحروب في مناطق معينة, نراها بالمقابل تتجاهل استحقاق إدانة الحروب والعمل على إيقافها في مناطق أخرى، بل إنها تعجز عن اتخاذ نفس المواقف الصارمة من حروب أخرى مثل ما حدث الأسبوع الأول من هذا الشهر في تعثر مجلس الأمن عن انتزاع إجماع دولي بشأن الحرب البواح الدائرة على الأرض السورية ما يقارب اليوم من عشر سنوات، بغض النظر عن الضربة الأمريكية الأخيرة لمواقع الأسلحة الكيمياوية بسوريا في هدفها المحدود بعدم التماس الصدامي مع الإنزال العسكري الروسي على أرض سوريا لمساندة النظام ضد شعبه مع عدم التخلّي عن غرور الإدارة الأمريكية والرئيس الأمريكي الحالي في إثبات الوجود العسكري بالمنطقة. كما نراها عجزت وتعجز عن القيام بأي عمل فعَّال سوى الإدانات اللينة للحرب المفتوحة الموجهة ضد الشعب الفلسطيني يومياً أمام الكاميرات.
إذن المسألة ليست مسألة شح المعلومات عمَّا يجري في الأرض المحتلة أو ما كان يجري في «البوسنة والهرسك» أو في أبو غريب، بل المسألة ماذا نفعل بالمعلومات وكيف توظّف هذه المعلومات في إقرار حق أو في تزيين باطل. فمن يملك القوة كما قال الفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو والمقصود هنا السلطة هو من يشكل المعلومة كيف شاء ويسخّرها لخدمة مصالح بعينها تصب في صالح من بيده مقاليد هذه السلطة. وليس هذا المقال من السذاجة لأن يقول أن على صاحب السلطة أن يستخدم المعلومة ضد مصالحه لصالح أن يعم السلام على الكرة الأرضية، ولكنه من الرومانسية والإيمان أن يقول بالحق في السلام لجميع الشعوب, وإن ذلك لن يتحقق بدون تشكيل مراكز ضغط حرجة تغيّر الموازين على مستوى المطالبات الشعبية دولياً إن لم يكن على مستوى الحكومات بما يؤثّر على قراءة المعلومات وقراءة الصور وجعلها تصب في صالح إحقاق عدل لا بجانب تجميل ظلم. وهذا ما كان ذلك البرنامج على المحطة الأمريكية يحاول فعله على الرغم من التأييد المادي والمعنوي الذي يوليه الغرب لدولة الاحتلال الاستطياني إسرائيل. كان يحاول شحن الدعم الرسمي بالتكتل الشعبي خلفه وإن في الاتجاه المعاكس؛ أي إظهار شعب الاحتلال في صورة إنسانية تشتت الانتباه عن قراءة صورة اعتقال عهد التميمي الفتاة الفلسطينية اليافعة وهي تتلوّى ويشد شعرها أمام الكاميرات وتجر ليزج بها في السجون الإسرائيلية، وتشتت الانتباه عن صورة مجند إسرائيلي يفتش بوحشية أمام الكاميرات حقيبة مدرسية لطفلة فلسطينية ولما لم يجد فيها ما يريب يرديها قتيلة في جمع من التلاميذ العزّل وأمام الكاميرات العالمية أيضاً دون أن تقرأ تلك الصور المروّعة قراءة تحليلية تحرك ساكناّ ضد الاحتلال وتوقف الحرب على تلك الأرض العربية المستباحة.
فكيف تترك تلك التضحيات الوطنية لجيل جديد من الشابات والشباب الفلسطيني الصغار تواجه الرصاص بصدور عارية أمام العالم دون أن يرف له هدب دون أن نفعل شيئاً لحماية حق الصورة في قول الحقيقة وانتزاع الوقوف مع الحق عالمياً.
لا يقول أحد إن فظائع بعض الأنظمة العربية في شعوبها أنكى من فظائع إسرائيل. ولا يقول أحد إن هناك من باع واشترى من أبناء فلسطين وهادن وقبل بالتصالح مع الاحتلال الإسرائيلي، فتلك مقارنات خاطئة تاريخياً وأخلاقياً. وليس لظلم قبيح فادح أن يدافع عن ظلم بشع فاضح بمعيار الضمير لأن الجرم لا يبرر الجرم سواء جاء بيد ذي القربى أو بيد غريب.
وليس أخيراً، أنه كلما ادلهمت الظلمة في عالمنا العربي وأطبق المحاق وصرنا لا نميز الأعداء من الأصدقاء هبت من أرض فلسطين شرارة مقاومة تأبى التعود على العمى السياسي والعنف العسكري وتعيد الاعتبار لضوء صغير اسمه بارقة الأمل.
التعليقات