صالح القلاب
بعد كل هذا الذي جرى في سوريا خلال السنوات السبع الماضية وأكثر، باتت هناك شبه قناعة لدى المعنيين بهذه الأزمة المتفجرة والمتابعين لها، إنْ في هذه المنطقة وإنْ في الشرق والغرب، بأنها ذاهبة إنْ ليس إلى التفتت والتشرذم والتشظي فإلى «التقسيم». فالعودة إلى ما كانت عليه قبل عام 2011 من الواضح، لا بل المؤكد، أنها لم تعد ممكنة في المدى المنظور على الأقل وذلك بعدما وصلت الأمور إلى ما وصلت إليه وأصبح هذا البلد يخضع لاحتلالات كثيرة دولية وإقليمية.
والأكثر صعوبة على هذا الصعيد هو أن كل الأدلة تشير إلى أن القوتين الرئيسيتين الفاعلتين في هذا البلد، روسيا والولايات المتحدة، لم تعودا قادرتين على التفاهم، ولو في الحدود الدنيا، وأنهما ذاهبتان إلى حرب باردة جديدة كتلك التي سادت في النصف الثاني من القرن الماضي، وهذا إنْ لم يستجد، ما سيأخذهما إلى مواجهة عسكرية، إنْ هي لن تكون بمثابة حرب عالمية جديدة فإنها ستكون حرباً إقليمية بالتأكيد ستنخرط فيها إيران وإسرائيل وأيضاً تركيا وبعض دول هذه المنطقة التي بعض دولها منحاز منذ الآن إلى هذه الجهة وبعضها الآخر منحاز إلى الجهة الأخرى.
والواضح أنَّ سوريا لن تستعيد وحدتها في المدى القريب وستكون ميدان مواجهة وساحة معركة بين القوى المتصارعة والتي لا يهمها كيف سيكون مصير هذا البلد العربي، الذي من سوء طالعه أن موقعه الجغرافي هو هذا الموقع الاستراتيجي وأنه ابتُلي بنظام طائفي وليس بنظام الطائفة منذ عام 1970 الذي أوصله إلى ما وصل إليه، بقدر ما يهمها الاستحواذ على مصادر الطاقة في البحر الأبيض المتوسط وفي شواطئه، إنْ في ما تبقى من هذا القرن الذي من الواضح أنه قد بدأ عاصفاً وسينتهي عاصفاً، وإنْ في القرن الذي يليه الذي لا تزال تحدياته في عالم الغيب.
إن السؤال الذي ازداد إلحاحاً في السنوات الأخيرة من عمر هذه الأزمة، التي تحولت مع الوقت إلى أزمة إقليمية ودولية متفجرة خاضعة لأسوأ الاحتمالات، هو: إلى أين سوريا ماضية يا ترى؟ وهل هي ذاهبة إلى التقسيم والتشظي، كما يقال، وأنَّ حفاظها على وحدتها ليس معجزة وفقط، لا بل مسألة مستحيلة وذلك رغم كل هذه «الانتصارات!» الوهمية التي هي انتصارات للإيرانيين والروس وليس لهذا النظام البائس الذي لو أنه «لم يركب رأسه» ولم يخضع للرغبات الروسية والإيرانية ورغبات أخرى كثيرة ومتعددة لكان قد توصل مع «شعبه» إلى حل مقبول ومعقول منذ البدايات وعلى أساس أن «لا يجوع الذئب ولا تفنى الأغنام»؟
قبل أيام قليلة بعد هذه الانتصارات الأخيرة التي حققها الإيرانيون والروس في دوما والغوطة الشرقية، نقلت وكالة «إنترفاكس» الروسية عن نائب وزير الخارجية الروسي سيرغي ريابكوف قوله: «لا نعرف كيف سيتطور الوضع بالنسبة إلى ما يتعلق بمسألة إنْ كان من الممكن أن تبقى سوريا دولة واحدة»، وهذا بالإضافة إلى أن وزير الخارجية الروسي نفسه سيرغي لافروف كان قد أطلق تصريحاً مدوياً في الوقت نفسه حذَّر فيه من وجود محاولات تهدف إلى تدمير هذا البلد وتقسيمه والإبقاء على وجود قوات أجنبية على أراضيه إلى الأبد... وهنا فإن المؤكد أنه لا يقصد القوات الروسية التي تجاوز وجودها في هذا «القطر العربي» كل الحدود، والتي باتت لها قواعد إلى الأبد كمنحة من بشار الأسد في «حميميم» وفي طرطوس وبانياس على الشواطئ المتوسطية.
والسؤال هنا أيضاً هو: هل فعلاً يا ترى سيكون هناك تقسيم لسوريا هذه التي كانت ولا تزال تعد «قلب العروبة النابض» والتي بقي يُرفع فوقها منذ الثامن من مارس (آذار) عام 1963 وحتى الآن شعار «أمة عربية واحدة... ذات رسالة خالدة» هذا الشعار الذي غدا مستهلَكاً ولا يظهر إلا في بعض المناسبات الرسمية؟!
والجواب الذي يجب أن يُقال، وبوجع قلب ومرارة، هو نعم... إنه بالإمكان تقسيم هذا البلد العربي الذي كان قد التقى في عام 1958 مع مصر في وحدة اندماجية عنوانها «الجمهورية العربية المتحدة» التي وللأسف قد انهارت بعد نحو 3 أعوام، وحيث إن حافظ الأسد نفسه قد حوّل نظامه بعد انقلاب عام 1970 إلى نظام طائفي وليس نظام الطائفة، وجعل بلده «القرداحة» العاصمة البديلة لدمشق، وأقام في المناطق التي كانت ولا تزال تسمى «نصيرية» الكثير من القواعد الجوية وجعلها، أي هذه المناطق، مستودعات للصواريخ والأسلحة المتطورة، وكل هذا وقد أصبحت قيادات الجيش العربي السوري الرئيسية والفاعلة من الموالين له وأقرب المقربين منه عائلياً وعشائرياً ومذهبياً بعد تصفية المنافسين له من أبناء هذه الطائفة نفسها مثل محمد عمران وصلاح جديد وإبراهيم ماخوس وغيرهم من كبار ضباط القوات المسلحة.
إن هذه هي بداية التقسيم، فإعطاء الكيان السوري كله بعد انقلاب عام 1970 الصبغة المذهبية ليصبح الحكم في سوريا كله طائفياً وليس حكم الطائفة، يعني أنه كان هناك تحضيرٌ منذ البدايات لكل ما هو قائم الآن، وحيث رفع بشار الأسد مبكراً، بعد انفجار هذه الثورة المستمرة والتي من الواضح ورغم كل هذا الذي حصل والذي يحْصل أنها ستنتصر لا محالة، شعار «سوريا المفيدة»، المقصود به «التقسيم» وبكل وضوح وصراحة، حيث هذه الـ«سوريا المفيدة» ستضم شريطاً يتشكل من العاصمة دمشق وبعض المدن والمناطق الرئيسية وصولاً إلى اللاذقية وجبلة وبانياس وطرطوس على سواحل المتوسط الشرقية.
والمعروف أن بشار الأسد كان قد أطلق تصريحاً مدوياً بعد اشتداد النزعة الانفصالية والتقسيمية لديه قال فيه: رغم خسائرنا الكبيرة فإننا نعتبر أننا رابحون لأننا قد حققنا «التناسق المجتمعي»، والمقصود هنا هو عمليات الطرد والتهجير لـ«السنة» وإحلال طائفيين ومذهبيين محلهم إنْ من الداخل وإنْ من الخارج... من إيران وأفغانستان والهند وباكستان. وحقيقةً أن هذا هو التقسيم الحقيقي الذي يكمله حسن نصر الله من الجهة الأخرى بما يفعله أيضاً من تغيير ديموغرافي في لبنان وبخاصة في المناطق الحدودية اللبنانية المتاخمة للحدود السورية.
ثم وإنَّ الأخطر هو أن تزويد نظام بشار الأسد بصواريخ «إس 300» و«إس 400» هو استدراج لإسرائيل لتدخل على خط كل هذه المتغيرات السورية، الحالية والمتوقعة، ولتحتفظ بالجولان كله ولتكون شريكاً رئيسياً في عمليات «التقسيم» هذه التي هي قائمة على قدم وساق الآن، والدليل على هذا كله أنه عندما يواصل الروس «نسْف» الحل السياسي المبنيّ على «جنيف 1» وقرار مجلس الأمن رقم 4522 فلأنه يعني منع التقسيم، ولأنه هو الحل الوحيد الذي لا حلَّ غيره الذي يحافظ على وحدة هذا البلد ويقطع دابر المؤامرة التقسيمية التي تسعى روسيا لفرضها على المعادلة السورية.
ويقيناً إن كل هذه الاتصالات واللقاءات التي جرت والجارية الآن والتي ستجري من لقاء «باكاكرا» في السويد الذي ضم ممثلي الـ«15» دولة الأعضاء في مجلس الأمن، ولقاء الرئيس الفرنسي الأخير مع الرئيس الأميركي دونالد ترمب، واللقاء المرتقب بين الرئيس الأميركي والرئيس الروسي، جميعها تدور حول مسألة التقسيم هذه التي يبدو أنها غدت إنْ ليست محسومة فشبه محسومة، وذلك رغم أن هناك من يقول إن الأميركيين ما زالوا، ومعهم الفرنسيون والبريطانيون، مترددين إزاء هذه المسألة الخطيرة التي ستترتب عليها مستجدات كثيرة في هذه المنطقة التي غدت تهتز كـ«قصلة» في رياح عاصفة.
وهكذا فإنه لا بد من السؤال مرة ثالثة: هل أن سوريا يا ترى ذاهبة إلى التقسيم بالفعل؟ والجواب هو أنَّ كل شيء جائز ما دامت هناك كوريا شمالية وكوريا جنوبية، وقبرص شمالية وقبرص جنوبية، ويمن جنوبي ويمن شمالي، والصين الشعبية والصين الوطنية (فرموزا)، والسودان الجنوبي والسودان الشمالي، وأيضاً ما دامت هناك ألمانيا الغربية وألمانيا الشرقية، وفيتنام الشمالية وفيتنام الجنوبية، وما دامت هناك دولة علوية ودولة درزية، ودولة دمشق ودولة حلب!
التعليقات