ترمب قلب طاولة عولمة التجارة الدولية... رأسا على عقب

 محمد سالم سرور الصبان

بحجة إيجاد توازن في المكاسب الاقتصادية بين الولايات المتحدة الأمريكية وشركائها التجاريين، بدأ الرئيس الأمريكي ترمب ولايته قبل أكثر من عام مضى، بإلغاء أو التلويح بإلغاء مختلف الاتفاقيات الدولية؛ إذْ إنَّه يراها غير عادلة؛ من خلال تحيُّزها للشركاء على حساب المصلحة الأمريكية، ويذكر على الدوام الحجم الكبير للفائض التجاري العالمي مع بلاده والذي يصل إلى (800) مليار دولار. ولذا فلا يمكن الاستمرار في ذلك، وعلى الأخصِّ تلك الاتفاقيات المُبْرمة مع الدول الكبرى التي تحقِّقُ فائضا تجاريا لصالحها أمام الولايات المتحدة.

ولِقُوَّةِ الولايات المتحدة الاقتصادية، لم يكن هناك بُدٌّ من أنْ يخضع شركاؤها التجاريون لمبدأ إعادة التفاوض حول كلِّ ما من شأنه تحقيق التوازن لميزانها التجاري. بل وأكَّدَ في أكثر من مناسبة، بأنُّه سينتصر وبسهولة في أية معارك تجارية مع أيٍّ من الشركاء.

فبعد أنْ ألغى اتفاقية «النافتا»، وهي اتفاقية التجارة الحرة بين كل من أمريكا وكندا والمكسيك، وأصر على إعادة التفاوض حولها، أصر أيضا على تجميد، وإلغاء قادم لاتفاق المشاركة عبر دول المحيط الهادئ، وهو الاتفاق الذي يضم اثنتي عشرة دولة، بما فيها الولايات المتحدة، بحجة أنَّه سيتسبب في خسارة حوالي مليوني وظيفة في الولايات المتحدة. وكان ذلك الاتفاق يهدف ــ من بينِ ما يهدف إليه ــ إلى تحييد النمو الاقتصادي المتسارع للصين، ومحاولاتِ زحفِها لتحتل مكانة أكبر اقتصاد في العالم، خلال العقود المقبلة.

ولم يكتفِ الرئيس ترمب بذلك، بل جمَّدَ أيضًا اتفاق التجارة بين دول المحيط الأطلسي الذي كانت دول الاتحاد الأوروبي أصلًا مترددة في قبوله. ولوَّحَ مؤخرا بنيَّتهِ إلغاء عضوية الولايات المتحدة في منظمة التجارة العالمية، مُطْلِقًا عليها لقب «أمُّ الكوارث»، وبالتالي فمن كان يهدده برفع قضايا ضد أمريكا في المنظمة يعرف مسبقا النتيجة.

إذًا فالرئيس ترمب استطاع مِنْ منطلق القوة الأمريكية ــ كونها أكبر اقتصاد عالمي وأكبر شريك تجاري عالمي ــ استطاع في فترة قصيرة نسبيًّا أنْ يقلب الطاولة على الجميع، فما كان من الدول الأخرى، والكبرى منها، على الأخصِّ، إلَّا أنْ تنصاعَ لمطالبه، وتقبلَ بشروطه، وتُظهرَ اقتناعها بِحُجَجِه ومبرراتِه لِفتحِ جميع الملفات. وفي زحمة انشغالاته مُتنقلًا بين مختلف الأزمات السياسية التي تواجهُهُ محليًّا ودوليًّا، قام بتهديد منظمة أوبك؛ إذْ زعمَ أنَّها تدفع بأسعار النفط إلى الارتفاع لتبلغَ مستويات مصطنعة منه، وأنَّ هذا التصرف، غير مقبول لديه على الإطلاق.

ولم تنته سلسلة الإلغاءات التي اتَّخذها تجاه مختلف الاتفاقيات الدولية، بل اتَّجَهَ أيضًا إلى تطبيقٍ فِعْليٍّ لبعض الإجراءات التي اتَّخذها أوْ سيتَّخِذُها، وهي التي تُعدُّ بمثابة العصا التي يُلوِّحُ بها تجاه شركائه التجاريين. ومن تلك الإجراءات فرضُ رسومٍ جمركية على واردات الولايات المتحدة من الصلب والألمونيوم، (25%،15%) مُقدِّمًا «الجَزَرَة» لبعض الدول، وهي إعفاؤهم مؤقتًا من تلك الرسوم. فكان أنِ استثنى شركاءه في اتفاق النافتا (كندا والمكسيك)، واستثنى أيضًا مؤقتًا الاتحاد الأوروبي وبعض الدول الأخرى لمدة شهر مايو الحالي. وربط هذا الاستثناء بجدول زمني، يعتمد على مدى التقدم الذي يتمُّ إحرازه في المفاوضات التجارية الثنائية.

أمَّا الصين فلم تحظَ بأيَّةِ استثناءات؛ بحجة أنَّ ميزان التجارة بين البلدين في صالح الصين بما لا يقل عن (200) مليار دولار. وأُعلنَ الأسبوع الماضي عن بداية تفاوض ثنائيٍّ بين البلدين للتوصل إلى اتفاق يُقلِّصُ الفائض التجاري للصين مقابل الولايات المتحدة.

ويستندُ الرئيس ترمب في قيامه بهذه الخطوات التي فاجأت العالم إلى حجج عديدة منها:

أولا: ضعفُ الإدارات السابقة في تفاوضها مع الشركاء التجاريين، وتنازلها عن مصالح أمريكية جوهرية في مجال حرية التجارة، ولذلك يرى أنّ تلك الاتفاقيات ما كان ينبغي أنْ تُعقدَ أصلًا.

ثانيا: اعتقاده أنَّ شعاره الذي تبناه منذ بداية رئاسته: «أمريكا أولا»، لن يتحقق في ظل استمرار فقدان الوظائف الأمريكية؛ ولذلك فلنْ يكتفي بما حققته إدارته من تخفيضٍ لِنِسبة البطالة بين الأمريكيين إلى (3.9%) مؤخرا ــ وهو أدنى مستوى بلغته منذ عقود مضت ــ بل سيسعى إلى مزيد من التخفيض لتلك النسبة.

وشعارُ «أمريكا أولًا» خطيرٌ في مضمونه، وقد يدفع بأمريكا إلى حالةٍ من العزلة لا منتهى لها، ولا تستطيع تَحَمُّلَها؛ إذْ إنَّ تجارتها مع دول العالم جوهرية، وهي المحرك الرئيس للنمو الاقتصادي فيها. والرئيس ترمب يعرف ذلك، لكنَّه ــ ومن خلال خبرته الطويلة كصاحب شركات ومؤسسات تجارية ــ يستخدمُ هذا التكتيك التفاوضيِّ ليحصل على ما يريده؛ بإعطاء انطباعٍ بأنَّه غيرُ مُهتمٍّ بما يحدثُ للعولمة الاقتصادية، أو لمنظمة التجارة العالميَّة، أو لأيَّةِ جهةٍ دوليَّةٍ تقفُ أمام تحقيقه لِما يُسمِّيه بـ «التوازن في التبادل التجاري العالمي».

وختامًا، وبانتظار ما ستُسفرُ عنه مختلف المفاوضات التجارية بين الولايات المتحدة وشركائها التجاريين، وعلى رأسهم الصين، تسودُ حالة من الترقُّب والحذر العالمي، بل والتخَوُّف من الانجرار نحو حروب تجارية مستدامة لا يعلم أحد متى تتوقف. وهي حالة، وإنْ بدأت بشركاء الولايات المتحدة الرئيسيين، غيرَ أنَّها قد تتوسّعُ بشكل كبير، وقد تأخذَ أشكالًا متنوعة من أجل تحقيق ترمب لأهدافه في هذا المجال. ولا أستبعد دخول دولنا العربية والخليجية بالتحديد طرفًا في هذه الحروب التجارية. وأرى أنَّ الهجوم على أوبك ما هو إلا مقدمة لذلك؛ مِما قد يُنْذِرُ بتعرُّضِ شركاتنا في الولايات المتحدة للمعاقبة القانونية، وخاصة إذا ما قرَّرنا طرحَ أرامكو في سوق نيويورك، وهو أمر يجب الحذر منه.

* كاتب سعودي