أحمد عبدالمعطى حجازى
«تجديد الفكر والخطاب الديني» هو عنوان الكتاب الذى أصدره المحامى المفكر رجائى عطية منذ أسابيع وجمع فيه جملة من المقالات والبحوث التى كتبها فى الدين وعلوم الدين، وموقف الدين من العصر ومن قضاياه المثارة وأسئلته المطروحة بإلحاح على المسلمين ومنها مفهوم التجديد، والمكان الذى تمثله السنة النبوية كمصدر للعقيدة الإسلامية، لا يمكن فصله عن القرآن الكريم، وموقف الإسلام من المرأة، وموقف الإسلام من الفن، وموقف الإسلام من غير المسلمين، وموقف الأزهر من قضية التجديد.
والكتاب بهذه الصورة ليس موضوعا واحدا، وإنما هو موضوعات شتى وضع لها المؤلف هذا العنوان الذى يجمع بين الفكر والخطاب، وبين التجديد والتقليد، فضلا عما تشير إليه هذه المفردات وتستحضره فى أذهاننا كالتطرف والاعتدال، وحرية التفكير والتعبير.. وفى هذا كله يقف رجائى عطية موقفا حاول فيه أن يكون وسطا بين الاتجاهات المتعارضة لا ينحاز لواحد منها، ولا يعزل نفسه تماما عنها، وإنما يجتهد فى أن يكون حلقة وصل بينها. وهو موقف صعب اختاره رجائى لنفسه، وجسده فى نشاطه المهنى والفكري، وجمع فيه بين ثقافته القانونية التى حصلها فى كلية الحقوق وثقافته الدينية التى حصل بعضها فى الكلية على أيدى الأساتذة المختصين فى الشريعة الإسلامية، وحصل بعضها بجهوده الذاتية واستطاع بما حصله هنا وهناك أن يحتل مكانه فى المجلس الأعلى للشئون الإسلامية عضوا من أعضائه. وبهذه الثقافة المزدوجة يتصدى رجائى عطية لمناقشة المسائل التى ناقشها فى كتابه وينجح فى إقناعنا بأن ما يطلبه العقل لا يتعارض بالضرورة مع ما يطلبه الدين الذى يجعل القيمة الأخلاقية هدفا للإنسان يسعى لبلوغه ويجعل العقل منارة يهتدى بها فى الطريق لبلوغ هذه الغاية، فالحق والخير صنوان، والعلم الذى يكشف لنا العالم يقربنا من المثل الأعلي.
وباستطاعتنا إذن أن نقرأ سفر التكوين فنصدق ما جاء فيه عن عمر الكون الذى يقدر على أساسه بسبعة آلاف عام منذ خلقه الله إلى اليوم دون أن نكذب العلماء الذين يقدرونه بملايين السنين، وذلك بحسبة يختلف فيها الأساس الذى يقدر به طول اليوم فى الكتب المقدسة عن طوله فى حسابنا الذى نقدره فيه بالوقت الذى تستغرقه دورة الأرض حول نفسها، ورجائى عطية يستشهد فى هذا بفيلم أمريكى يدور حول محاكمة مدرس تناول قضية الدين والعلم فى درس من دروسه.
أما فيما يتصل بتجديد الخطاب الدينى فرجائى عطية يستخدم كلمة «الخطاب» بالمعنى الذى كانت تستخدم به فى الماضي، وهو اللغة التى نتخاطب بها ونتفاهم دون أن نميز بين اللغة من حيث هى معجم ونحو وصرف وأدب وبلاغة وبين اللغة كما يستخدمها كل منا بالصورة التى تتميز بها اللغة عن الكلام وتختلف فيه السطور عما وراء السطور.
باختصار، الخطاب بالمعنى الحديث لا يختلف عن الفكر، فإذا كنا ننتقد الخطاب الدينى الموروث ونطالب بتجديده فنحن نطالب بتجديد فهمنا للنصوص الدينية الأساسية على النحو الذى يتوافق مع حاجات العصر ولا يتعارض مع مقاصد الشريعة.
فإذا انتقلنا من كلمة «الخطاب» إلى ما قاله رجائى عطية عن تجديده فسوف نرى أن كلامه هو كلام كل المثقفين المطالبين بالتجديد، سوى أن رجائى عطية لا يكتفى بأن يجعل التجديد مطلبا حيويا يحتاج إليه المسلمون بإلحاح، وإنما يضيف إلى ذلك أن التجديد طاقة من طاقات الإسلام أو وظيفة عضوية فيه يؤديها بحكم رسالته التى اكتملت بها الرسالات السابقة واختتمت وتجاوزت الحدود الجغرافية والقومية، واتجهت لكل البشر فى كل البلاد وفى كل العصور. ومعنى هذا أن الإسلام بحكم رسالته يتعامل مع عقول ولغات وثقافات وتواريخ وحاجات ومصالح لا تعد ولاتحصي. وهذه تختلف الآن، وتختلف غدا. وتختلف هنا، وتختلف هناك، فلابد أن يتجدد خطابه ويتفاعل مع البيئة التى يخطابها ليبلغ رسالته ويحقق مقاصده. ومن هنا يقول رسوله الكريم «إن الله يبعث بهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها».
بهذا الفهم يكون تجديد الخطاب فى الإسلام فريضة دينية وليس حاجة فكرية وعملية فحسب، ويكون السير على خطى القدماء دون فهم أو مراجعة أو إسهام جديد فى تراث الإسلام ومعرفة أصوله جهلا به وإساءة له تعزله عن العالم وتهدد وجوده فيه.
كيف نفسر إذن خوف الخائفين من التجديد ومن بينهم علماء وفقهاء يشتغلون بالدعوة له والذود عن حياضه؟
التفسير سهل. وهو أن التجديد مكلف، أما التقليد فليس فيه إلا التقليد. لا فهم، ولا هم، ولا تفكير، ولا مراجعة، ولا مسئولية، والمقلد يسير مغمض العينين مستسلما لمن يقوده. لا يري، ولا يميز، ولا يختار ظانا أن أئمته سائرون به إلى الجنة. وقد تربى على أيدى هؤلاء وتعلم منهم اليأس من إمكانية التقدم فى المستقبل والخوف مما يمكن أن يحمله من عوامل الذبول والانهيار، فلا سبيل إليه، ولا نجاة إلا فى الماضى يتشبث به وينغلق فيه على نفسه، لأن الماضى هو فردوس المسلمين، فإذا فقدوه فقد فقدوا كل شيء!
لكننا نرى أن القيامة لم تقم، وأن العصور الحديثة بثقافتها وخبراتها واكتشافاتها فتحت أمام البشر زمانا جديدا أصبح عليهم أن يملؤوه بحضارة لا تنسب لأمة واحدة أوقارة بالذات أو عصر دون غيره، وإنما تنسب لكل البشر ومنهم المسلمون برسالتهم التى لم يبق لها من الماضى إلا دروسه، ولم يعد أمامها إلا المستقبل.
لا طريق إلى الماضى إلا فى الأوهام. والمستقبل هو الطريق الوحيد المفتوح أمامنا وأمام البشر، ليس فى هذا العصر وحده، وإنما فى كل عصر. ويوم ظهر الإسلام قبل أربعة عشر قرنا لم يكن أمام المسلمين إلا المستقبل الذى اقتحموه قبل أن يعرفوه فامتلأت الأرض والسماء براياتهم الخفاقة من شواطئ الأطلنطى إلى داخل حدود الصين. وهذا هو الدرس الذى يجب أن يتعلموه من الماضي. أن يقتحموا المستقبل من جديد ليكون لهم ماض جديد يفخرون به.
التعليقات