رؤوف قبيسي
يبدو أن العصبيات من طبيعة البشر، غالبيتهم جاهزة دوماً لتأخذ جانباً يلائم أهواءها ونزاواتها، حتى لو أودى بها ذلك إلى الكوارث. هذا يفسرأسباب الحروب التي قرأنا عنها في كتب التاريخ القديم والحديث، والتي وما زلنا إلى اليوم نشهد مظاهرها في غير مكان من العالم. في البلاد النامية، وفي عالمنا العربي بنوع خاص، تأخذ العصبيات طابعاً دينياً، أو مذهبياً، أو قبلياً، أو عائلياً، وتكون فرصة للحاكمين ورجال الدين، يستغلونها لمصالحهم الخاصة، ومصالح ما يتعاونون معهم من العملاء والأجراء.
من العصبيات أيضاً ما يأخذ أشكالاً وطنية أو قومية، تصل إلى مستوى العنصرية. في البرازيل، مهجري الأول، وجدت تسامحاً لم أشهده في أي بلد عشت فيه أو زرته، لكني وجدت عند البرازيليين عصبية من نوع آخر، ممثلة برياضة كرة القدم. البرازيل لا ترقص كما ترقص في كرنفالها المشهور، لكنها تفرح أكثر حين يسجل فريقها الوطني فوزاً في مباريات كأس العالم، وهي لا تحزن، كما تحزن في لحظات الخسارة. كلنا يتذكر الهزيمة التي لحقت بالفريق البرازيلي أمام الفريق الألماني في مبارايات كأس العالم 2014، التي كانت نتيجتها سبعة أهداف لألمانيا، في مقابل هدف واحد للبرازيل. كانت هزيمة تاريخية، فقد جرت على الأرض البرازيلية نفسها، وتركت في وجدان بلاد السامبا ذكرى أليمة، لا نبالغ إذا قلنا إن آثارها لم تمح إلى اليوم!
منذ الستينات لمع اسم البرازيل، وصار مقترناً بكرة القدم، وصار البرازيليون يعرفون كل شيء عن لاعبي فرق بلادهم، الذين تحولوا إلى نجوم، حتى أنهم أطلقوا على اللاعب المشهور بيليه لقب "راي" أي الملك. وتُروى قصة عن هذا اللاعب المشهور فحواها أنه كان يتناول العشاء ذات مرة في أحد المطاعم، وعندما فرغ من عشائه وخرج من المطعم، هجمت عصابة من المعجبين على المكان، وسرقوا الكرسي الذي كان يجلس عليه "الملك"، وفروا هاربين. ليس ذلك بمستغرب على أي حال، في بلد لا يزال الناس فيه ينظرون إلى لاعبي الكرة، نظرة فيها شيء من القداسة.
ومن الحكايات التي تُروى أيضاً عن شغف البرازيليين بكرة القدم، أن سائحاً جاء يوماً إلى البرازيل، وفيما هو يتمشى في وسط مدينة سان باولو، رأى حانوت حلاق فدخله، وطلب إلى صاحبه أن يقص له شعره، ثم ابتهلها فرصة ليتحدث معه في كرة القدم. في كل مرة كان السائح يسأل الحلاق عن لاعب كرة برازيلي، كان هذا الأخير يقص عليه ما يعرفه عن اللاعب: اسم أبيه واسم أمه، مكان ولادته وتاريخ ميلاده، اسم زوجته أو عشيقته، وموقع ولادته من الأبراج. لم يترك شاردة أو واردة يعرفها عن هذا اللاعب أو ذاك، إلا ذكرها. أراد السائح بعد حين، أن ينتقل من الحديث في الكرة إلى الحديث في السياسة، فسأل الحلاق رأيه في جوان فيغيريدو، وكان يومها رئيس جمهورية البرازيل. بُغت الحلاق المسكين وبدأ يفكر، فيما بدت على وجهه ملامح من خانته الذاكرة، ثم قال لزبونه السائح: قل لي بالله عليك يا سنيور، هل تعرف مع أي فريق يلعب هذا الذي اسمه جوان فيغيريدو؟!
كرة القدم كالسياسة، ترفع ضغط الدم لدى بعض الناس، وقد تؤدي إلى مشاكل صحية، وقد أخبرني صديق طبيب أن أكثر من خمسة ألآف شخص يموتون بالسكتة القلبية في مباريات كأس العالم كل أربع سنوات، لدى سماعهم، أومشاهدتهم خسارة فريق بلدهم الرياضي، خصوصاً أثناء ركلات الترجيج، المسماة بقاموس الكرة ضربات الجزاء، وهي اللحظات العصيبة الحاسمة التي تعقب نتائج التعادل بالأهداف. قد تكون العصبية الرياضية ألطف أنواع العصبيات، وأقلها إثارة للدماء، لكنها مع ذلك تولد نزاعات حتى داخل البيوت، وهناك زيجات بين رجال ونساء من جنسيات مختلفة، طلقوا وانفصلوا، بسبب كرة القدم!
أكتب هذا المقال بعد مشاهدتي مباراة البرازيل مع بلجيكا في الربع الأخير من المباريات، وأسفرت عن فوز بلجيكا بهدفين، في مقابل هدف واحد للبرازيل. شاهدت المباراة على شاشة عملاقة في إحدى الساحات العامة في العاصمة البلجيكية بروكسل. ربما كنت الوحيد بين الألوف الذين احتشدوا في تلك الساحة، من كان يتمنى فوز البرازيل، لكني لم أتمالك في النهاية، وأنا أشاهد الناس يفرحون لفوز فريقهم الوطني، إلا أن أشاركهم فرحهم، فبلجيكا كما هو معروف، بلد قوامه شعبان: فالوني- فرنسي، وفلامنكو- جرماني، مع ذلك، يتباريان في خدمته والدفاع عنه، وهما في حاجة دائمة، إلى أي دوافع أو مشاعر حارة، تدعم الروابط الوطنية، وتحفظ وحدة البلاد، ولا شك في أن الكرة لعبت دورها في ذلك الليل الصيفي الدافىء.
أحياناً تضعك الكرة في موقف حرج، وهذا ما حصل لي يوم لعبت تونس مع إنكلترا في بداية المباريات. كنت يومها أشاهد المباراة مع ابني الذي ولد في إنكلترا، وكان من الطبيعي أن يؤيد الفريق الإنكليزي، فهو من مواليد لندن، وإنكلترا بلاده، وهو ينتمي إليها بالتربية والثقافة، ما يعني أن له "عصبيته" الخاصة. وجدت نفسي في موقف غريب، فأنا أيضاً من حاملي الجنسية البريطانية، وفي إنكلترا عشت العدد الأكبر من سنوات عمري، ولهذه البلاد أفضال عليً من العقوق أن أتجاهلها أو أنساها. في المقابل تونس بلد عربي، وتستأهل فرحة تخفف عنها ولو إلى حين، ما تعانيه هذه الأيام من أوضاع السياسة وخلافات السياسيين، لكني المشاعر الوطنية لدي تغلبت في النهاية على مشاعر الأبوة، وإن يكن بريق العروبة لم يعد كما كان ويا للأسف، ووجدت نفسي انحاز إلى تونس. فازت إنكلترا في تلك المباراة، وفرح ابني، وفرحت لفرحه، وحزنت لخسارة تونس. هل في الأمر تناقض؟ قد أحتاج إلى طريقة التحليل الفرويدية في علم النفس، لأفهم كيف يمكن المرء أن يفرح ويحزن في الوقت نفسه، أو قد أحتاج إليها لأفهم نفسي على أقل تقدير!
لكن ما أكثر حالات الفرح والحزن المرتبكة هذه التي تضعنا فيها كرة القدم. مررت بها أيضاً عندما فازت إنكلترا على السويد. كنت مع إنكلترا في تلك المباراة الشائقة، ولم أستطع أن أمسك فرحي لمدة طويلة، بعدما تحولت الكاميرات في الملعب إلى سيدة سويدية تحمل طفلها البالغ من العمر ثلاث سنوات يبكي متأثراً بزعل أمه، التي خسرت بلادها المباراة. أقطع بأن ذلك الطفل لم يكن يعرف أين تقع روسيا على خريطة العالم، ولا يعرف شيئاً عن قواعد لعبة كرة القدم، لكنه قد يكون أحس أن دقات قلب أمه، ومشاعرها في صدرها قد تغيرت على نحو لم يعهده، فأجهش بالبكاء! هذا موضوع آخر على أي حال، قد يحتاج البحث فيه إلى طائفة من الأطباء وعلماء النفس، وهو يخرجنا عما نحن بصدده.
لست وحدي بالطبع، من أصابته الكرة، فقد أصابت، ولا تزال تصيب مئات الملايين من البشر حول العالم، وتحزن شعوباً مختلفة في الشرق والغرب. وكما أن الحياة "دمعة وابتسامة" كما يقول جبران، فالدموع نفسها أنواع، منها ما هو للأفراح، ومنها ما هو للأحزان، وهي تسيل دائماً أثناء مباريات الكرة كما الدماء التي تسيل في الحروب، ولا شك في أن ملايين الناس يكسبون المال الوفير من هذه الرياضة، ومنهم بالطبع أعضاء الفرق المنتصرة، خصوصاً لاعبو الفريق الذي يفوز بكأس العالم، ما يذكّرنا بالكاتب المصري الراحل توفيق الحكيم. فقد قرأ الحكيم مرة، أن أحد لاعب فريق الكرة المصري، وأظنه كان صالح سليم، حقق في مباراة واحدة، أكثر مما حقق الحكيم من شقّ قلمه، فقال قولته المشهورة: "كنا في عصر القلم فصرنا في عصر القدم"! ولو عاش الحكيم الذي كان مشهوراً بالبخل والتقتير إلى أيامنا هذه، ورأى بأمّ العين، كيف تهبط الثروات على اللاعبين والمدربين المراهنين هبوط أوراق الخريف على الأرض، لربما قال قولاً آخر أشد إيلاماً.
بقيت ملاحظة أخيرة تتصل بلعبة كرة القدم، وعلاقتها بالسياسة، إذ غالباً ما نسمع بشائعات فحواها أن بعض حكومات دول العالم الثالث، ومنها الدول العربية، وتلك المسماة إسلامية، تدعم عصبية الكرة بالترويج وبناء الملاعب، لتلهي شعوبها عن القضايا الكبرى، وتصرفها عن حاجاتها اليومية المشروعة. لست أدري كم من الصدق في هذه الشائعات، لكن اليقين الذي لا يخالطه شك، هو أنها لو صحت، تبقى أضرارها على البشر والحجر، أقل بما لا يقاس من أضرارعصبيات دينية، توقد نار الفتن والضغائن، وتدفع بعض الشباب الناهض، إلى نحر الذات، وقتل العباد وخراب البلاد!
التعليقات