فهد سليمان الشقيران

 يهتمّ الدكتور عبد الله الغذامي بالنقد الثقافي والتحليل لما يستجد من مؤثراتٍ على المجتمع، وله سبق ودور معرفي في ذلك منذ عقود. وقد أطلّ في مداخلة تلفزيونية مؤخراً وهو يتحدث عن الظاهرة السوشيلية، وطفرة الإعلام الجديد، وقد رأى الربط بين هذه الصراعات المتتالية وبين الانفجارات التي سببتها الحداثة البعدية، وبرأيي أنه بالغ كثيراً في الربط بين ما بعد الحداثة والطفرات الاتصالية من دون تسبيب معرفي كافٍ، وخاصة أن الأحاديث حول الحداثات ونهاياتها وتجدد أشكالها باتت متداولة حتى لطلاب الفلسفة العاديين، إذ أخذت الحداثة البعدية منعطفاً آخر كما يعبر الفيلسوف الألماني الشهير يورغن هابرماس، وذلك لمن قرأ كتابه الكبير: «القول الفلسفي للحداثة»، وفيه رصد المنعطفات الكبرى، وتأمل في الهشيم الذي سببته الحداثة البعدية والانتقالات التي دافعت بها الحداثة الكلاسيكية عن نفسها.

يرى الغذامي أن ما بعد الحداثة post modernism تهيمن على المظاهر الاتصالية الحالية ومنها ثورة السوشيال ميديا، والادعاء هذا ينطلق من فرضية اشتغال ما بعد الحداثة ودورها في تثوير الواقع كما فعلت في النصف الثاني من القرن العشرين، والواقع أن ما بعد الحداثة وبحكم معاصرتها لثورات كثيرة سياسية واقتصادية «العولمة» وبمجال العلوم الإنسانية «البنيوية - ما بعد البنيوية» ومن ثم تطور النظرية العلمية البيولوجية في أبحاث الجينوم، كل ذلك له أثر على البحوث الإنسانية، مثلاً أثرت قراءة دلوز في علوم النبات على نحت مفهوم عتيد في صرح فلسفته، وأعني به الجذمور Rhizome؛ لذلك فإن الخلط شائع في الأوساط الإعلامية السريعة، لكن أن يقع به أكاديمي كالغذامي فإن التداخل معه تصبح ضرورية.
إن ما بعد الحداثة انتهت وتطورت، وذلك من خلال انفجار الفلسفة على مشارب ومجالات متعددة، وأصبح أثر ما بعد الحداثة من التاريخ واندثرت بعد انتهاء موضتها أواخر القرن العشرين، مثلا راؤول إيشلمان المفكر الألماني طرح كتاباً عام 2000 بعنوان «نهاية ما بعد الحداثة» وفيه يدخل للمحاججة من خلال التفجر الفني والجمالي عبر السينما والفنون.
ما بعد الحداثة لا علاقة لها بالسوشيال ميديا الأخيرة، نتيجة انفجارات تقنية ترتبط كثيراً بمراحل تالية لما بعد الحداثة، إنها طية أخرى في تاريخ العلاقة البشرية مع التقنية ترتبط أكثر بصراعات علاقة الإنسان بالآلة التي وصفها هيدغر بـ«ميتافيزيقيا العصر»، حين تتحول الآلة في القرن الـ21 إلى حاكمة للإنسان، بعد أن كان طوال القرون، منذ اكتشاف الآلة البخارية، حاكماً لها.
والإشكاليات التي تفتحها التقنية يجب ألا يربط أثرها بسبب واحد، والوسائل الاتصالية هذه تذكرنا بالبحوث والشذرات المبكرة حول التقنية كما لدى نيتشه، ولكن هيدغر يأخذ مدى أكثر حيوية في التحليل، وقد كتبت من قبل أن نيتشه إذا كان قد افتتح نقد «عهد الآلات» ورمى بسهامه «ثقافة الآلة» - التي تجعل من الحشود «آلة نمطية واحدة يذوب في دوارها الفرد، وتحوله إلى أداة استعمال لتحقيق بغية واحدة» - فإن هيدغر جاء من بعده ليدرس علاقة «التقنية بالعالم» وليخصص جزءاً من بحوثه المتعددة لهذا الغرض، حتى في كتابه الأساسي «الوجود والزمن» 1927 نراه يطرح ومضات عن استفهامه، مما جعل «لوك فيري» - في مقالة له - يجعل من مناقشة هيدغر لماهية التقنية «الخيط الناظم لمناقشة هيدغر للحداثة».


وفي دراسة هيدغر عام 1937 حول نيتشه و«العود الأبدي» نراه يشير إلى «الأسلوب التقني للعلوم الحديثة» وإلى «العقل الحسابي» الذي يحكم التقنية. كما جمع هيدغر في محاضرته سنة 1938 تحت عنوان «عصر تصورات العالم» كل العناصر لما سيعتبره فيما بعد «تأويلاً أو فهماً تكنولوجياً لعصرنا» فهو يصف في محاضرته هذه «التقنية المكْننة» بأنها (الظاهرة الأساسية للأزمنة الحديثة). أما في كتابه (الوجود والزمن) فقد تطرق إلى هذه المسألة حينما تحدث عن التحلل والانحطاط من حيث هو عالم الانشغال، فهو يقول إن «الطبيعة بالنسبة للذات المنفتحة (الدازاين) هي مخزن من الخشب والهضاب مستودع من الصخور، والنهر قوة محركة مائية، والهواء نافخ ودافع الزوارق الشراعية».
بآخر المطاف فإن الإلحاح على أثر الموجة ما بعد الحداثية في تثوير وسائل التواصل الاجتماعي مجرد إحالة افتراضية لظاهرة حيّة على سبب ميت، إذ تم تجاوز تلك الموجة وبقيت آثارها وتاريخها وتفاعلاتها، غير أن التقنية وما تجلبه معها من أخلاقياتٍ وأساليب عيش هي التي تستحق الدراسة الفلسفية ضمن مجال النقاش حول الإنسان وعلاقات وجوده، وهذا النمط من التحليل أجدى من التعلق أبدا بالبعد الواحد للتحليل، كما رأينا في نموذج الربط المتعسف بين الحداثة البعدية والظاهرة السوشيلية.