طيب تيزيني
نبحث الآن في ثلاثة مفاهيم مثلت أركان التحولات التي لحقت بعملية التغير والتقدم؛ وما زالت تقوم بهذا الفعل. والأمر يزداد اضطراباً في البلدان التي تعيش آثار ذلك من بعيد.
لقد انتشرت العولمة بكيفية كثيفة كأنها تعني مزيداً من التحولات الاقتصادية والسياسية والثقافية، التي أخذت تفتح الأبواب أمام التقدم الاقتصادي العالمي وغيره. وكتب تركي الحمد في مطلع الألفية الحالية أن عملية العولمة «هي بداية ثقافة عالمية، بغض النظر عن جذور تلك الثقافة.. فالقدرة على الجذب والتأثير هي حجر الرحى هنا، وليس مكونات الثقافة وبنيتها».
ولعلنا نجد كتابات أخرى تنحو ذلك النحو، أي القول بأن العولمة ظاهرة اقتصادية سياسية يمكن توظيفها على نحو تكون القدرة فيه «على الجذب والتأخير هي حجر الرحا، وليس مكونات الثقافة وبنيتها»، لكن الوجه الآخر من المسألة كان قد أعلن عن نفسه عبر كتابات ترى في العولمة «ما تعنيه وما تلح عليه» في سياق الظاهرة نفسها في «حقلها التجريبي الأميركي خصوصاً». وهنا نرى النشوء الكثيف للظاهرات الاقتصادية والعلمية، متجسدةً في ظاهرة «مدن المعرفة»، وغيرها من التطورات الكبرى.
لكن في سياق التحول الكبير والعميق، الذي دخل قلب المجتمع العولمي (في الولايات المتحدة مثلاً)، رحنا نواجه تلك المدن التي تتسم خصوصاً بنمط البناء الرأسمالي الأعلى، وبكل الطاقات الاقتصادية والعلمية؛ ما يضع اليد على تحولات عظمى في اقتصاد الحداثة المتقدمة العولمية، وهذا يقربنا من الإنتاج الرأسمالي العولمي العالمي.
لقد أتت الحداثة أو «ما بعد الحداثة» في صفين متوالين متكاملين، ما يجعلنا نواجه ما بعد الحداثة العولمية، وقد أدخلت عناصر جديدة، أكثر حداثة في طابور التقدم الهائل الذي نعايشه، وما يلازمه من مفعول يتصل بمجموعة القيم التي يسعى البشر للحفاظ عليها في موكب العولمة المتجه إلى ما بعدها.
لقد كشف الفكر الغربي في محاولته التطلع إلى ما بعد العولمة، فوصل إلى نتيجة تجعل البشر يحذرونها ويعملون على تجاوزها؛ أي أن الإمعان في الاهتمام بما يجيء في سياق الانشغال الخطير والهائل بالأشياء، إنما هو الخسارة المفتوحة لقيم تلك الأشياء.
وبتعبير أكثر ارتداداً عن القيمة الإنسانية، يكتسب التعبير عن عالم الأشياء صيغاً تنتمي إلى «ما قبل البشر». وهنا تطل «الهوية» في فعلها، أي في ممارستها عبر عالم الأشياء، فتتحوَّل إلى نابش في القبور بحثاً عن من أنتج هذه الأخيرة وكرّسها. وحينذاك سيبدو الأمر بمثابته تأكيد وتكريس لعالم الأشياء التي فقدت قيمها، حيث تفصح الهوية عن جذرها بعد أن تكون العولمة قد رفعت قيمة الأشياء وكرستها كعالم من تجليات «النعيم».
إن الهوية والحداثة والعولمة إن هي إلا واحدة من هذه الثلاثة؛ فالهوية ما هي إلا الحداثة مصوغة في عالم يبحث عن العولمة، عن عولمة تحتفظ بـ«جوهر العالم والأشياء» تأكيداً على ما تبقى من الإنسان، أي «الجوهر الأخير» الذي يجد نفسه ذا هوية عولمية ذات طباع يحافظ عليها أبداً.
هكذا، يكون العالم مجموعة مفتوحة من العوالم التي فقدت هويتها وحداثتها وعولميتها، لتتحول إلى حالات هجينة، يمكن للواحدة منها أن تقوم بدور الاثنتين.
إن النظام العولمي يؤسس لما بعد عوالمنا على أنها خلاصة التاريخ، وثمرة لما أخفق فيه الإنسان، ولما ينبغي أن يكون منقذاً له.
التعليقات