عبدالحق عزوزي

نتذكر خطاب الرئيس الأميركي دونالد ترامب السنة الماضية في الأمم المتحدة عندما انتقد ضعف المؤسسة الأممية وعدم كفاءتها، وأكد أن المنظمة الدولية «لم تحقق أهدافها بسبب البيروقراطية وسوء الإدارة‏»‬. ‬وحض ‬الدول ‬الأعضاء ‬على ‬اتخاذ «‬موقف ‬جريء» ‬لتغيير ‬طريقة ‬عمل ‬المنظمة ‬الدولية ‬بدل «‬التمسك ‬بالأساليب ‬التي ‬أثبتت ‬فشلها»‬، ‬مطالباً ‬أمين ‬عام المنظمة، ‬غوتيريش، ‬بإحداث ‬تغييرات. ‬وقال ‬بالحرف: «‬إن ‬الذي ‬يريد ‬أن ‬يعطل ‬عمل ‬منظمة ‬الأمم ‬المتحدة ‬لا ‬يمكنه ‬أن ‬يأتي ‬بقوانين ‬أحسن ‬من ‬التي ‬وضعناها ‬بأنفسنا»‬. ‬ثم ‬اشتكى ‬ترامب ‬من ‬أن ‬الولايات ‬المتحدة «‬لا ‬ترى ‬عائدات ‬استثماراتها»، ‬والنتيجة ‬أن ‬الأمم ‬المتحدة ‬خفضت، ‬تحت ‬ضغط ‬من ‬الولايات ‬المتحدة، ‬ميزانيتها ‬بنحو ‬500 ‬مليون ‬دولار.

وقبيل قمة حلف «الناتو» الأخيرة، شن ترامب هجوماً حاداً على ألمانيا متهماً إياها بإثراء روسيا وعدم الوفاء بالتزاماتها بسبب مشروع أنبوب الغاز «نورستريم» الذي سيربط مباشرة روسيا بألمانيا، مطالباً بالتخلي عنه. ‬وتستورد ‬دول ‬الاتحاد ‬الأوروبي ‬ثلثي ‬احتياجاتها ‬من ‬الغاز. ‬وفي ‬عام ‬2017 ‬شكل ‬ذلك ‬360 ‬مليار ‬متر ‬مكعب ‬من ‬الغاز ‬الطبيعي.. ‬لكن ‬الخبراء ‬يؤكدون ‬أن ‬وراء ‬الحملة ‬الأميركية ‬ضد ‬روسيا، ‬رغبة ‬في ‬غزو ‬أسواقها ‬لبيع ‬غازها ‬الطبيعي. ‬فقد ‬صدرت العام الماضي ‬17,2 ‬مليار ‬متر ‬مكعب، ‬بينها ‬2,2% ‬نحو ‬موانئ ‬الاتحاد ‬الأوروبي. ‬لذلك نفهم ‬ترامب ‬عندما ‬يهاجم ‬أعضاء ‬الناتو ‬الذين «‬لا ‬يدفعون ‬ما ‬عليهم» ‬للنفقات ‬العسكرية. ‬ونتذكر ‬أن ‬أعضاء الحلف ‬تعهدوا ‬في ‬2014 ‬بإنفاق ‬2٪ ‬من ‬إجمالي ‬الناتج ‬المحلي ‬لبلدانهم ‬على ‬شؤون ‬الدفاع ‬بحلول عام ‬2024، ‬لكن ‬15 ‬دولة ‬في ‬الحلف، ‬بينها ‬ألمانيا ‬وكندا ‬وإيطاليا ‬وبلجيكا ‬وإسبانيا، ‬لا ‬يزال ‬إنفاقها ‬على ‬الدفاع ‬تحت ‬عتبة ‬1,4٪، وستكون ‬غير ‬قادرة ‬على ‬احترام ‬وعدها، ‬الأمر ‬الذي ‬يثير ‬غضب ‬الرئيس ‬الأميركي. ‬ونفهم ‬أيضاً ‬ربطه ‬الذكي ‬بين ‬مسألة ‬إمداد ‬الغاز ‬الروسي ‬لألمانيا ‬ومساهمة ‬هاته ‬الأخيرة ‬في ‬الناتو، ‬ما ‬جعله ‬يقول ‬قبل ‬القمة إن «‬ألمانيا ‬دولة ‬غنية، ‬يمكنها ‬زيادة ‬مساهمتها ‬اعتباراً ‬من ‬الغد ‬وبدون ‬أي ‬مشكلة».

كل الاستراتيجيين الذين يقومون بتحليل سياسة ترامب، يرون أنها قائمة على «أميركا أولا» وعلى «مصلحتها الاقتصادية أولا»، وهي تتعارض مع القيم الاستراتيجية المشتركة التي جمعت كل رؤساء الولايات المتحدة خلال مائة سنة الأخيرة، وبمعنى أنه يحدِث زلزالا مدوياً في الرؤية التقليدية لأميركا عن العالم، وأن هذا الانكماش الاستراتيجي سيغير الكثير من أمور العلاقات الدولية، دون أن ننسى أن قيم الحرية والكرامة والانفتاح، ستتبخر في العديد من الأمصار، خاصة تلك التي يوجد المجال السياسي فيها على شفا جرف هار، ينتظر أي مؤشر لينهار في غيابات المجهول والفوضى.

الرئيس ترامب يرى نفسه صاحب شركة كبرى تملك العالم، وليس دولة عظمى تمارس دور دركي العالم، وهنا الفرق! ‬كل ‬دولار ‬تنفقه ‬أميركا ‬على ‬المنظمات ‬الدولية، ‬وكل ‬اتفاقية ‬تجارية ‬ولو ‬كانت ‬خاضعة ‬للقواعد ‬التجارية ‬العالمية، ‬يخضعها ترامب ‬لميزان «‬أميركا ‬أولا»‬، ‬وهو يعلم ‬علم ‬اليقين ‬أن ‬العقوبات ‬الدولية ‬لن ‬تطاله، ‬وأن ‬هذه ‬السياسات ‬الخارجية ‬تنال ‬ثقة ‬الشعب ‬الأميركي ‬الذي ‬صوت ‬عليه ‬انطلاقاً ‬من ‬المبادئ ‬التي ‬يطبقها ‬الآن في السياسة الخارجية. ‬كما ‬أن ‬له ‬أنفة ‬رجل ‬الأعمال ‬الناجح ‬الذي ‬يصعب ‬عليه ‬أحياناً ‬التنازل ‬عن ‬قراراته.

ويرى ترامب أن النظام العالمي عبارة عن لباس يمكن لأكبر فاعل دولي فيه أن يغيره متى شاء وكيفما شاء، خاصة إذا كان مستهلكاً ويعاني من أزمات بنيوية ومن تصاعد تأثيرات العولمة على مكوناته، وخاصة إذا كان أيضاً بحاجة لحقن جديدة.. لكن الذي نراه هو أن هذه الحقن التي يقوم ترامب بضخها فيه هي حقن بها بعض الفيروسات الضارة، حيث سيخرج من هذا النظام كل من يريد البقاء في صحة وعافية، لكن بعد أن يكون قد تنفس الفيروسات المحقونة في المجال العام لهذا النظام.