أكرم البني

في كتابه الشهير «الصراع على سوريا» لم يستند باتريك سيل فقط، إلى موقع هذا البلد المفصلي في منطقة حساسة من العالم أو بالتعبير الاستراتيجي «منطقة المصالح الحيوية» الغنية بالثروات الطبيعية وأهمها النفط، والتي لم تعرف الاستقرار طيلة عقود بسبب التنافس الشديد للهيمنة عليها وبسبب التحديات التي خلفها تنامي الدور الصهيوني بعد قيام دولة إسرائيل، وإنما أيضاً إلى حالة الضعف والتهميش التي كان يعانيها المجتمع السوري بعد الاستقلال في عام 1946، وإلى الدور المتعاظم للجيش في الحياة السياسية، حيث بدت الانقلابات العسكرية التي تناوبت على السلطة في سوريا منذ انقلاب حسني الزعيم عام 1949 وحتى انقلاب حافظ الأسد عام 1970 كأنها محصلة لصراع القوى العربية والإقليمية والعالمية للسيطرة على هذا البلد والتحكم في موقعه وسياساته.

ومع أن معظم السوريين يعترفون، ضمناً أو جهراً، بالنجاح الذي حققته السلطة منذ مطلع السبعينات في إخراج بلادهم من لعبة صراع الأمم، بل وفي تنمية نفوذها ودورها التدخلي في المشرق العربي، والأمثلة كثيرة، سيطرتها المديدة على الوضع اللبناني، اللعب بالورقة الفلسطينية واستثمارها لابتزاز الآخرين، توسل الأكراد للضغط على حكومة أنقرة... فإنهم يستشعرون اليوم بأن المشهد قد تبدل تماماً، وأن السلطة نفسها، التي دمرت المجتمع وغدت منهكة ومرتهنة، هي من دشن عودة جديدة ومظفرة لما كان يعرف في خمسينات وستينات القرن المنصرم بـ«الصراع على سوريا»، وذلك عندما أنكرت الدوافع الحقيقية لحراك الناس ومشروعية مطالبهم، وصمت أذنيها إزاء كل الدعوات لإبقاء الأزمة وحلولها في الإطار الوطني، وتوغلت منذ اللحظة الأولى في سفك الدماء وتدمير البلاد، مستسهلة استجرار أي دعم خارجي يضمن بقاءها وامتيازاتها، ما أفضى إلى فتح الباب على مصراعيه أمام مختلف الطامعين للتأثير في الوطن السوري والعبث بمصيره، وتالياً تحويله إلى مسرح للتدخلات والصراعات الخارجية، التي لم تتخذ فقط وجوهاً دبلوماسية وسياسية واقتصادية، وإنما الأسوأ، وجهاً عسكرياً سافراً تجلى في حيازة الكثير من الأطراف الدولية والإقليمية، إنْ بالأصالة وإنْ بالوكالة، موقعاً وركيزة عسكريين في خريطة الاقتتال السوري.

إشهار المسؤولية الأساس للسلطة في عودة «الصراع على سوريا» بات ضرورياً وملحاً للرد على من يحمّل الثورة السورية هذه المسؤولية، على أنها من شاغل النظام ودفعه للالتفات إلى همومه الداخلية على حساب تنمية نفوذه وردع التدخلات الخارجية، وتالياً للرد على من لا يريد أن يرى الأسباب البنيوية العميقة التي حفزت الشعب السوري على النهوض وشجعت أكثريته المهمشة على كسر حاجز الخوف والمطالبة بحريتها وكرامتها، والأهم للرد على من يهمل التراكمات السلبية لدى السوريين ومجتمعات الجوار على حد سواء، التي خلفها نهج مؤذٍ لنظام تواطأ بشكل سافر مع مرامي الهيمنة الإيرانية، وتوسل منطق القوة والغلبة والأساليب الأمنية والإرهابية، لتأكيد دوره الخارجي وتحسين نفوذه على حساب صحة الوضع الداخلي وعافيته، وما يزيد الأمر وضوحاً أن تنامي منافسات الآخرين وتدخلاتهم في شؤون بلدان المشرق العربي، كان سابقاً لانتفاضة السوريين، ربطاً بتداعيات الاحتلال الأميركي للعراق وتوافق المصالح الغربية على تخليص النظام دوراً إقليمياً عانوا منه كثيراً، كان أبرز محطاته كف يده عن لبنان وإجباره على سحب جيشه من هناك بعد اغتيال رفيق الحريري.

والحال، فقد بدأت الثورة السورية كحركة سلمية، وظهرت في مختلف مفاصل تطورها، كمسألة داخلية تتعلق بحقوق البشر في الحرية والكرامة، وليس بأي حسابات أو ارتباطات إقليمية أو دولية، والدليل أنها استمرت وحيدة أمام آلة قمع لا ترحم، قبل أن تتقدم ردود الفعل الخارجية وتتضح مواقف الأطراف المساندة للنظام كروسيا وإيران ومن يدور في فلكهما، في مقابل أطراف انحازت بعد تردد، نحو دعم مطالب الناس وحقوقهم المشروعة، كالدول الغربية وتركيا وأكثرية البلدان العربية، ولكن في ظل مناخ دولي مضطرب لم تتضح معالمه بعد، ونظام إقليمي لا يزال في طور الصياغة، يحدوهما سياسة روسية نشطة، والسلبية في المواقف الغربية والأميركية، ووضوح مطامع إيران وتركيا وإسرائيل، يمكن تفسير هذه الحمية التنافسية عند مختلف الأطراف الدولية والإقليمية في استثمار بؤرة التوتر السورية لتحسن حضورها ومواقعها، ولنقل لتصفية حسابات كل طرف مع خصومه، وحتى آخر قطرة دم سورية! ولا يغير هذه الحقيقة بل يؤكدها الدور الخجول للمنظمة الأممية في التعاطي مع المأساة السورية، ثم حالة التهتك والضعف للسلطة والمعارضة، وشدة ارتهانهما لحماتهما وداعميهما، وتؤكدها أيضاً قوة المصالح البغيضة التي جمعت هؤلاء المتنافسين في مواجهة تنظيم «داعش» والجماعات الإسلاموية الإرهابية، والتي لا تثير عندهم أدنى خجل من تبديل اصطفافاتهم وتحالفاتهم وخوض معارك التنازع المكشوف على الحصص والمواقع، ويصح النظر من هذه القناة إلى سلوك حكومة أنقرة التي لم تتردد بحثاً عن قطعة أكبر من الكعكة السورية وفرصة أفضل لردع الأكراد، بتسخير دورها لخدمة المخطط الروسي، بدءاً من معارك مدينة حلب إلى تطويع الوجود المعارض في الشمال، حتى اتفاقات آستانة، وأيضاً النظر إلى التردد الأميركي في اتخاذ موقف حاسم من وجودها العسكري في سوريا، وإلى تصاعد التنافس بين طهران وموسكو للهيمنة على سياسة البلد ومقدراته، ترافقها الضربات الجوية التي تكيلها إسرائيل للمواقع العسكرية الإيرانية وميليشياتها في سوريا.

أخيراً، وعلى الرغم مما خلفه العنف المنفلت والشحن المذهبي من تمزيق لاجتماع السوريين ولحمتهم الوطنية، ورغم تنوع معاناتهم وتفاوتها كضحايا أو كمعتقلين أو كمشردين أو كفقراء معوزين، ثمة، بين هذا الركام، خيط من الأمل للخلاص، يتنامى مع تنامي مخاوف السوريين المشتركة على هويتهم الوطنية ومستقبل أطفالهم من الضياع، ومع تنامي ما يعتمل في نفوسهم من رفض لعبث الأجنبي في ديارهم، فكيف الحال إن تمكنوا من تمثل درس محنتهم الثمين، بأن الاستبداد والفساد المزمنين، وشيوع العنف والتمييز السلطويين، وتغييب دور الناس وحرمانها من حقوقها، هي ما خصب التربة الحاضنة للتنابذ والاقتتال الأهلي وأيضاً للصراع على البلد والسيطرة عليه، والأهم إن آمنوا بأن وحدتهم كمواطنين أحرار هي وحدها القادرة على الإطاحة، مرة وإلى الأبد، بمقولة «الصراع على سوريا»!
&