& مجاهد عبدالمتعالي&

عندما تدير الحوار مع أحدهم حول حكم الغناء، تُفاجأ وإذا به يخلط بين الأغنية بأركانها الثلاثة «الكلمات الشعرية، الصوت، اللحن الموسيقي» وبين المؤدي، فيقول لك: هل تريد أن تقنعني أن أغنية مادونا مباحة وحلال؟


فأقول له، آسفا على أزماته التي لم تستطع أن تفصل بين الصورة والأغنية: يا سيدي: النظر «بشهوة» إلى هذه المطربة أو غيرها «حرام» بلا خلاف بين الفقهاء، سواء كنت تستمع لها أو كنت تشاهدها مغلقا صوت التلفاز.

فالحرمة تنطلق منك ابتداءً لسوء نيتك في النظر إليها، ولا علاقة للأغنية بأركانها الثلاثة في آثامك الخاصة، فهي -كمطربة- تعيش بقناعاتها الخاصة في أقصى الدنيا، وأنت تعيش بدينك حيثما كنت، ولن تضيع دينك لأن ظروف حياتك -مثلا- جعلتك تعيش في أحد شوارع أوروبا التي يقف في منتصفها تمثال امرأة نصف عارية. فهذه هشاشة في الدين لا يصح أن نرميها على تمثال من نحاس. ومَنْ لا يعرف الفرق بين حكم النظر بشهوة -وهو محرم على الرجل والمرأة بلا خلاف- وحكم سماع الأغاني المختلف فيه لاختلاطه بظنون جعلته عند البعض غير جائز، بينما الأمر في أقصى مداه يعود إلى التقوى الخاصة بالفرد؟!

فالبعض -مثلا- يأخذ بفتوى جواز المسيار، والآخر يأخذ بفتوى الألباني في عدم جوازه، ولا يثرب المبيح على المانع ولا العكس بأنه من اتّباع الهوى والشهوات، وهذا في إحدى ضرورات الدين الخمس «العرض»، فكيف بما هو دون ذلك من أصوات أطربتنا وعشنا أجمل لحظاتنا معها شعورا بالوطن، وبالجمال، وبالحنين، وبالترانيم التي قالت فيها العرب تصف الغناء بأنه «زاد الراكب»، ويقصد بالراكب المسافر لمسافات طويلة على ظهر البعير.

وعندما تسترجع تاريخ الغناء في التراث العربي، تُفاجأ بجهل مطبق لدى الناس بهذا التاريخ العربي والإسلامي الذي اهتم بصناعة الغناء، حتى أفرد لها قاضي المالكية بديار مصر عام 786هـ، الإمام عبدالرحمن بن محمد بن خلدون في مقدمته الشهيرة، فصله الثاني والثلاثين وسماه «في صناعة الغناء»، إذ أوضح أن هذه الصناعة تقوم على «تلحين الأشعار الموزونة، بتقطيع الأصوات على نسب منتظمة معروفة... وذلك أنه تبين في علم الموسيقى أن الأصوات تتناسب فيكون صوت، نصف صوت، وربع آخر، وخمس آخر، وجزء من أحد عشر من آخر... إلخ»، ثم استرسل كيف يمتزج صوت المؤدي بتقطيع أصوات أخرى من الجمادات، إما بالقرع أو النفخ في آلات تتخذ لذلك فتزيدها لذة عند السماع، ثم ذكر المزمار ويسمونها الشبابة، ليسترسل في وصف شكلها وطريقة استخدامها، والبوق النحاسي ووصفه يتقاطع مع «آلة البوق التي تشبه المزمار والمستخدمة في صعيد مصر حتى وقتنا هذا»، ثم انتقل إلى الآلات الوترية مثل الرباب أو على شكل مربع كالقانون، ثم يسترسل في بيان أسباب اللحن الناجح من اللحن الفاشل، ثم يبين انصراف العرب في أول بداوتهم عن الألحان المركبة وميلهم إلى السهل البسيط كالترنم بالشعر، وأقصى ما عندهم -كما ذكره ابن رشيق «ولد سنة 390هـ» في كتاب العمدة- نغمة بسيطة تسمى السناد، وهو من الخفيف الذي يُرقص عليه، ويمشي بالدف والمزمار، وكانوا يسمونه الهزج، وهو لا يحتاج إلى تعليم -كما يقول ابن خلدون- شأنه شأن البسائط كلها من الصنائع، ثم يقول ما نصه «ولم يزل هذا شأن العرب في بداوتهم وجاهليتهم، فلما جاء الإسلام، واستولوا على ممالك الدنيا، وحازوا سلطان العجم، وغلبوهم عليه... غلب عليهم الرفه بما حصل لهم من غنائم الأمم، وافترق المغنون من الفرس والروم، فوقعوا إلى الحجاز وصاروا موالي للعرب، وغنوا جميعا بالعيدان والطنابير والمعازف والمزامير، وسمع العرب تلحينهم للأصوات ولحّنوا عليها أشعارهم». ثم ذكر من ظهر من المغنين في العصور الإسلامية الأولى، فالمغني طويس في المدينة «ولد سنة 11هـ وتوفي سنة 92هـ»، والمغني أبوجعفر سائب بن يسار، أول من عمل العود بالمدينة وغنى به «توفي سنة 63هـ»، مرورا بمعبد «توفي سنة 126هـ»، وإبراهيم الموصلي «توفي 188هـ»، ثم ختم هذا الفصل بإشارة حضارية عميقة المعنى إذ قال: «وهذه الصناعة آخر ما يحصل في العمران من الصنائع... وهي أيضا أول ما ينقطع من العمران عند اختلاله وتراجعه».

أدام الله علينا الفرح والسرور، وزادنا حبورا أسوة ببقية الأمم المتحضرة، من أقصى اليابان إلى أقصى كندا، وأبعد عنا التراجع والاختلال، فإذا انقطع الطرب والغناء من شعب، فهو إشارة عند ابن خلدون على التراجع والاختلال، والعودة إلى جفوة البادية وشظف العيش.

هذا حديث القاضي المالكي عبدالرحمن بن خلدون، ولمن رأى في المقال تجاهلا للنساء المغنيات في العهود الإسلامية الأولى، فليرجع إلى سيرة أول فنانة في التراث العربي، وهي «عزة الميلاء التي ولدت بالمدينة المنورة واختُلف على وفاتها بين 87هـ وسنة 115هـ».

ودونكم كتب التراث لتقرؤوا تاريخكم بعيون الحضارة والمدنية، فتكتشفوا أن الحضارة الإسلامية مقترنة بالبهجة والفرح، وليست مستقلة عنها، وفيها من أحاديث الحياة أضعاف أضعاف حديث الموت.