&حميد الكفائي&

منذ العام 2006 والمؤسسات العراقية تدار بالوكالة، والسبب هو أن الحكومة غير قادرة على تعيين رؤساء هيئات وقادة جيش وشرطة واستخبارات ووكلاء وزارات ومستشارين ومديرين عامين بصورة رسمية، بسبب الخلافات بين الأحزاب على حجم حصصها في المناصب. هذه الخلافات أتاحت فرصة نادرة لرئيس الوزراء والوزراء ليعينوا من شاءوا من أتباعهم وأقاربهم في إدارة المواقع المهمة في الدولة خلافا للضوابط ومن دون أي قيود تتعلق بالكفاءة والخبرة. لم يُثبَّت أي مسؤول إداري دون الوزير في موقعه منذ العام 2006 باستثناء السفراء وبعض المديرين العامين الذين لا يتطلب تعيينهم موافقة البرلمان. كان التثبيت ليجعل هؤلاء الموظفين الكبار يعملون بثقة واطمئنان، معتمدين على قدراتهم وخبراتهم، ومتمتعين بحماية القانون. لكنهم ظلوا يعملون بالوكالة، ضعفاء أمام المسؤول الأعلى، يخيم عليهم شبح الإقالة إن هم رفضوا تنفيذ الأوامر الصادرة إليهم، وإن كانت مخالفة للقانون والإنصاف، فإقالة الموظف المعين بالوكالة سهلة جدا، إذ ليس له حقوق قانونية ولا يمكنه الاعتراض.


عاش هؤلاء المسؤولون الكبار، والمستقلون منهم تحديداً، أجواء تشبه ما كان سائدا أيام النظام السابق، فبالإمكان إقالة غير الموالي في أي وقت، بل وتلفيق أي تهمة جاهزة له، كتعاطي الرشوة أو إهمال الواجب أو التسبب في إلحاق الضرر بالاقتصاد الوطني وما شابه. كان المسؤول يُقتاد من كرسيه إلى ساحات الإعدام إن ظن رأس النظام (أو أحد أبنائه أو أقاربه أو معتمديه) بأنه غير موال. اتُّهِم وزير الصحة، رياض إبراهيم حسين، الذي يشهد له خصومُه قبل أصدقائه، بالكفاءة والنزاهة والمهنية وسمو الأخلاق، باستيراد أدوية منتهية الصلاحية وأعدم بعد أن (ثبُتَتْ) التهمة عليه في محكمة! وكيف لا تثبت وقد وجهها له رئيس الدولة!

في النظام الجديد يحصل الشيء ذاته تقريباً، مع تحسن طفيف هو استبدال حكم الإعدام بالسجن. على سبيل المثال، رؤساء هيئة النزاهة، التي يفترض أنها تلاحق الفاسدين، أقيلوا أو استقالوا بين ليلة وضحاها لأسباب مجهولة، ولكن يمكن تخمينها بأنهم رفضوا تنفيذ الأوامر الصادرة إليهم من جهات عليا لأنها مخالفة للقانون. وكانوا جميعا، خلا واحد، معينين بالوكالة.

يقدِّر مطلعون عدد المسؤولين الكبار المعينين بالوكالة في الدولة العراقية بالآلاف، وهذا يشمل معظم وكلاء الوزارات ورؤساء الهيئات المستقلة ومديري البنوك والمستشارين والمفتشين العامين والمديرين العامين وقادة الجيش ومديري الشرطة والاستخبارات والأجهزة الأمنية، بل إن أهم مؤسسات الدولة، كالأمانة العامة لمجلس الوزراء وهيئة النزاهة، والبنك المركزي العراقي، وجهاز الاستخبارات، تدار بالوكالة منذ العام 2006 للأولى، و2007 للثانية و2008 للثالثة و2012 للرابعة. وكذلك هو حال ديوان الرقابة المالية، وشبكة الإعلام العراقي وهيئة الاتصالات والإعلام وهيئة دعاوى الملكية (إلى أن حُلّت قبل أربع سنوات) وعدد من البنوك التابعة للدولة. والطريف في إدارة الأمانة العامة لمجلس الوزراء، وهي أهم مؤسسة في الدولة على الإطلاق، لأنها تنظم عمل الوزارات والمؤسسات كافة، أن شقيقين أداراها بالوكالة، الأول لثماني سنوات في عهد نوري المالكي ثم خلفه شقيقه في المنصب لأربع سنوات في عهد حيدر العبادي!

وفي الفترة الممتدة بين الأعوام 2006 و2014 كان رئيس الوزراء وحده (بتفويض من مجلس الوزراء) يتخذ قرارات تعيين رؤساء الهيئات، وهم بدرجة وزير، ووكلاء الوزارات والمستشارين وذوي الدرجات الخاصة والمديرين العامين. ومنذ الحكومة المؤقتة في عام 2004، فإن أولى مهام الوزير الجديد إقالة كبار المسؤولين أو مضايقتهم، أو تهميشهم، حتى يستقيلوا أو يطلبوا التقاعد، خصوصاً أن كانوا مستقلين وغير موالين له، وتعيين بدلاء لهم بالوكالة، من أتباعه أو أقاربه.

أصبح هؤلاء الموظفون، الذين عادة ما يديرون الدولة بحسب كفاءاتهم وخبراتهم المتراكمة ووفق القانون، ضعفاء لا يستطيعون أن يفعلوا شيئا إلا بأمر المسؤول الأعلى وهو رئيس الوزراء أو الوزير بالنسبة لمن هم دون درجة وكيل وزارة، بل أصبح معظمهم أدوات طيعة بأيدي الوزراء وقادة الأحزاب والميليشيات لأنهم أن رفضوا الأوامر، فإن الإقالة تنتظرهم، بل قد تُلفق لهم التُهم ويحكمون بالسجن لفترات طويلة كما حصل لكثيرين، ومنهم رئيس هيئة معين بالوكالة، لُفِّقت له تهم عديدة بينها تبذير المال العام لأغراض سياسية وسرقة كومبيوتر محمول كان معه يوم إقالته المفاجئة، أعاده في اليوم التالي.

الآن، يحاول السيد عادل عبد المهدي كما وعد في (المنهاج الحكومي) أن يُنهي ما سمي "دولة الوكالة" تارة و"الدولة العميقة" تارة أخرى، لكن السؤال الذي يدور في أذهان كثيرين هو ماذا يحصل لآلاف المسؤولين الحاليين أن هو فعلا أقدم على إنهاء العمل بالوكالة؟ ومن سيحل في مناصبهم وكيف؟ هل سيعلن السيد عبد المهدي المواقع الجديدة الشاغرة (عبر النافذة الألكترونية) مثلاً، كما فعل أثناء تشكيل حكومته عندما تقدم عشرات الآلاف من العراقيين الطامحين أن يصبحوا وزراء في حكومته؟ أم أنه سيملأ هذه الوظائف بطرق مبتكرة غير متبعة سابقاً؟ أم سيلغي معظمها، خصوصا وأن الدولة تئن من كثرة الموظفين والمديرين والوكلاء والمستشارين والمفتشين الذين لا عمل حقيقياً لهم؟

المتوقع أن رئيس الوزراء سوف يعين بدلاء لهم وفق محاصصة جديدة تأخذ بنظر الاعتبار التوازنات التي خلقتها الانتخابات الماضية وظروف تشكيل الحكومة الحالية الغامضة. قد يُثبَّت بعضهم في مواقعهم، أن كان هناك من يسندهم من الأحزاب، خصوصا المسلحة منها، ولكن كثيرين منهم سيفقدون مناصبهم ليحل محلهم آخرون من أتباع قادة الجماعات السياسية، ليبدأوا التجريب في إدارة الدولة كما فعل أسلافهم من قبل. الحل الأمثل هو استبدال غير الأكفاء بأهل الخبرة عبر إجراءات شفافة عادلة تستهدف توظيف العراقيين المستقلين. لكن مصادر موثوقة أفادت بأن عبد المهدي أجرى مشاورات مع الجماعات السياسية المختلفة في شأن هذا الأمر.

عندما سقط النظام السابق تحت نيران الدبابات الأميركية وعاد القادة الحاليون وأتباعهم إلى العراق، انتشر هؤلاء في بغداد والمحافظات وأخذوا يستولون على المباني والممتلكات العامة التي خلفها المسؤولون السابقون وراءهم بعد هروبهم. حتى أن أحد الأحزاب (الدينية) استولى على مسجد عملاق في بغداد لم يكتمل بناؤه بعد، ومازال يتمركز فيه حتى اليوم. استولى هؤلاء المسؤولون (الديموقراطيون) على ممتلكات الدولة من دون وجه حق ومن دون تبرير قانوني أو أخلاقي مقنع. مئات المسؤولين من وزراء وقادة عسكرين ومحافظين ونواب ووكلاء ومديرين وأعضاء مجالس محافظات، حققوا مكاسب مادية هائلة عبر الاستيلاء على المال العام مباشرة أو عبر فرض العمولات على الشركات أو إحالة المشاريع والصفقات التجارية إلى أتباعهم أو شركاتهم الخاصة المسجلة بأسماء آخرين. ومعظمهم الآن يسكنون القصور الفارهة ولديهم مصالح ومكاسب وأملاك داخل العراق وخارجه، حققوها عبر طرق غير قانونية وغير أخلاقية، ولم يكتفوا بذلك بل وظفوا أتباعهم غير الأكفاء في المناصب العامة. لذلك، من غير المتوقع أن يُنصِف هؤلاء الناس ويتخلوا عن مكاسبهم، وهذا يعني أن مشاكل العراق لن تنتهي أن بقيت هذه الطبقة السياسية المتشدقة بالدين متحكمة بالدولة. لا يمكن السارق وعديم المبادئ أن يتحول إلى وطني ومخلص فجأة. أتوقع أن العراقيين لن يسكتوا أن تكرر توظيف المقربين وأستُثنيَ منه المستقلون، وأن الاحتجاجات سوف تتصاعد خصوصاً مع تدهور الخدمات وتزايد البطالة.

&