&زياد الدريس&

في ظل التحولات الجنسية (الجندرية) التي تتسارع في هذا العالم سعياً لصناعة أنماط جديدة من (الأسرة)، تتكاثر الانتقادات التي تبلغ مبلغ الشتيمة أحياناً، للمجتمع الأبوي، باعتباره نمطاً أسرياً ماضوياً ينبغي دفنه وتجاوزه بلا رجعه.


هل (المجتمع الأبوي) سُبّة ومنقصة على الإطلاق، أم أنه شكل من أشكال النظام الأسري، فيه وفيه. وقد عاشت البشرية عليه قروناً مديدة منذ بدء الخلق، واستطاعت أن تستمر في النمو والبناء والمعرفة. وتوارث الإنسان هذه القيم التنموية في ظله جيلاً فجيلاً لآلاف السنين.

وإلى اليوم، فإن جلّ الثقافات في هذا العالم (العربية والهندية والفارسية والصينية والأفريقية والأوراسية واللاتينية) تتبع النظام الأسري "العمودي" القائم على سلطة الأب أو الأبوين. الثقافة الأوروبية (الغربية) وحدها التي تحولت في منتصف القرن الماضي من النظام العمودي للأسرة إلى النظام الأفقي، الذي تتساوى فيه سلطة الأبوين مع الأبناء.

إذا كانت القبيلة والإقليم والطائفة هي من الهويات الصغرى التي (قد) تُضعف المواطنة، فإنه لا يمكن عدّ الأسرة مع الهويات الصغرى، فهي ارتباط فطري يتجاوز مسائل الهويات. وإن كان لا بد من غمسها في التصنيف الهويّاتي، فإن الأسرة جديرة بأن تصطف مع الهويات الكبرى كالدين والقومية والوطن، حيث يحقق الدين للإنسان الاستقرار الروحي، والقومية الاستقرار الاجتماعي والوطن الاستقرار الأمني، وتقوم الأسرة بضمان الاستقرار العاطفي الذي يتناول الإنسان جرعاته كل يوم. لكن هذا الاستقرار العاطفي يتعرض إلى تهديدات عولمية كبرى، أشدّها بلا شك (زواج الشواذ) الذي يتم الترويج له في عالم اليوم بشكل مدروس وفعال، وهو بمثابة إعلان عن موت الأسرة أو نهايتها!

وإذا كنا اتفقنا أن نظام الأسرة العمودي له مساوئ سلطوية أساء استخدامها بعض الآباء مع أبنائهم، بدافع الحب الزائد أو التعنت الفارغ، فهل يخلو النظام الأفقي من مساوئ تمييع السلطة وتقسيمها بين أفراد الأسرة بالتساوي، كأنها كعكة؟! فالسُّلطة إذا تم تقسيمها بالتساوي بين الجميع فإنها لا تعود سُلطة.

هل استطاع النظام الأفقي للأسرة في الغرب أن يحفظ الحقوق ويحقق الرفاه والسعادة لكل أفراد الأسرة، في كل مراحلهم العمرية؟

إذا كان النظام العمودي يتحيز بطبيعته للآباء، فإن النظام الأفقي يتحيز للأبناء. وإنْ يصبح التحيز واقعاً لا محالة فإن وجدان الأبوين، الأقوى من كل وجدان، سيجعل تحيز العمودي له أخف وطأة من تحيز الأفقي للأبناء.

الحديث عن التهديدات التي تحيط بوجودية (الأسرة) لا يعني الامتناع عن مراجعة وتطوير أدبيات الأسرة ومواءمتها مع روح العصر، ولكن دون الانجرار في فخ التهديد الشامل لكيانها.

هل يوجد حل سحري يردع تسلط الآباء ويمنع تمرد الأبناء؟ دعونا نفكر في توليفة اجتماعية تحقق هذا المطلب النموذجي، أو تقترب منه.

لكن لنتذكر أن؛ السُّلطة إذا تفرعنت تحولت إلى تسلّط، وإذا توزعت تحولت إلى سَلَطة! وأن المظهر الأول والحقيقي لـ(نهاية التاريخ) هو نهاية الأسرة!

&