عبد الوهاب بدرخان

اللغط كبير في تشخيص حقيقة الأزمة اللبنانية، والسلطة برهنت على عجز فادح في المصارحة والشفافية. متروك للبنانيين اكتشاف ما وصل إليه البلد بالمعاناة المباشرة فردياً وجماعياً. المختصر المفيد هو أن رصيداً من 180 مليار دولار كإيرادات وودائع تقلّص منذ عام ليصبح الآن أقل من 40 ملياراً. أما كيف تبخّر على هذا النحو فالإجابات تقود إلى طرق شتّى، أبرزها استدانة الدولة لسداد الديون المتراكمة داخلياً وخارجياً والإنفاق لتسيير أعمالها ودفع الرواتب، وأخطرها أن النظام المالي كان يُستخدم أيضاً لتوفير العملة الصعبة للحكومة السورية في مشترياتها الخارجية. ويُشار أيضاً إلى أن تشديد العقوبات الأميركية على دمشق و«حزب الله» شكّل ضغوطاً على الوضع المالي العام وأدّى إلى إفلاس مصرف وفرض رقابة على مصارف عدّة. وبالتزامن مع هذا النزيف استمرّت عمليات عدّة في حرمان الدولة من مواردها لمصلحة «حزب الله» وجهات أخرى حكومية لديها شراكات مزمنة بأنشطة الفساد. يُضاف إلى ذلك هروب الكثير من الرساميل في الشهور القليلة التي سبقت انفجار الأزمة.

وينبغي القول إنه منذ انتهاء الحرب الأهلية عام 1990 خسر لبنان إمكان تحقيق فائض أو بحبوحة مالية. فغداة الحرب احتاج البلد لمشروع تأهيل لبنيته التحتية ومرافقه ومؤسساته، وقد تولّاه رئيس الحكومة الراحل رفيق الحريري معوّلاً بشكل أساسي على المملكة العربية السعودية ودولة الإمارات العربية المتحدة ودولة الكويت، وعلى دعم دولي كانت علاقاته مع فرنسا تسهّل حصوله عليه. وفي الذكرى السنوية الـ15 لاغتياله، قبل أيام، أمكن رصد ما حققه في زمن قياسي ولقاء مديونية خارجية ظلّت متوازنةً مع الإيرادات، لكن أمكن أيضاً رصد ما لم يستطعه أو بالأحرى ما مُنع صراحة من إنجازه.

أدّى اغتيال الحريري عام 2005 إلى انسحاب القوات السورية بعد وجودها فيه لما يقرب من ثلاثين عاماً، وإلى إقامة وصاية بديلة تولّى «حزب الله» إدارتها مستنداً إلى سلاحه غير الشرعي الذي مكّنه أولاً من إقامة دويلة داخل الدولة، ثم إلى تغلغل الدويلة في كل مفاصل الدولة، وصولاً إلى تحكّم «الحزب» بتنصيب رؤساء الجمهورية وتشكيل الحكومات، وهو ما تبدّى مع انتخاب ميشال عون رئيساً وتكليف صهره جبران باسيل بأدوار تخدم أجندة «الحزب» في الداخل حيث فُرض قانون للانتخاب استهدف إضعاف الرئيس سعد الحريري ثم استُهدفت حكومته بالتعطيل رغم أنه كرّس كل جهده لإنجاح مشروع «سيدر» بمساعدة فرنسا للحصول على مساعدات تنموية شاملة، كما كلّف الوزير السابق باسيل بتوجيه السياسة الخارجية حيث اتخذ في المؤتمرات العربية والإسلامية مواقف لا إجماع لبنانياً عليها، كونها تسيء إلى العلاقات مع دول الخليج. أي أن التعامل السلبي ذاته الذي استُخدم مع الحريري الأب استُكمل مع الحريري الابن، لكن هذا ليس التفسير الوحيد للمشكلة التي يعانيها لبنان اليوم، بل يثبت أن الأزمة سياسية في جوهرها بقدر ما أنها اقتصادية ومالية.
عدا سوء الإدارة المزمن واستفحال الفساد، تكمن حقيقة المشكلة في أن الزج بلبنان في ما يسمّى «محور الممانعة» أدّى تدريجياً إلى إضعاف علاقاته المميزة بدول الخليج وفقده ثقة المؤسسات الدولية، كما وضعه على خط التوتر الأميركي الإيراني وإمكان تعرّضه للعقوبات. لكن الأسوأ أن طرفي الوصاية لا يستطيعان مساعدة لبنان، فهما تحت عقوبات قاسية وكانا يعتمدان عليه في كثير من العمليات المالية قبل أن تقفل أزمته الأبواب والنوافذ دونهما. وإذ تستعد الحكومة الجديدة لمواجهة الأزمة باللجوء إلى عواصم الخليج والبنك الدولي وصندوق النقد الدولي، فإنها تواجه واقعاً صعباً، فمن جهة تجد مطالبات ملحّة بإصلاحات تتطلّب إجراءات قاسية، ومن جهة أخرى تجد أن أي مساعدة إذا توفّرت ستكون مقيّدة بشروط سياسية صارمة. صحيح أن الخارج العربي والدولي لا يريد انهيار الدولة اللبنانية لكنه لا يريد أن يساهم بتمويل «الدويلة» بشكل غير مباشر.