حسن مدن

لم تكن الحرب الأهلية في لبنان قد اندلعت بعد، حين قدّم زياد الرحباني، الذي كان بالكاد في مطالع العشرينات من عمره، مسرحيته الأولى «نزل السرور»، التي غنى فيها الفنان الراحل جوزيف صقر مجموعة أغانٍ، بينها أغنية جاء فيها المقطع التالي: «كنا في أحلى الفنادق/ جرجرونا عالخنادق».

ما هي إلا شهور واندلعت الحرب، ووجد اللبنانيون أنفسهم في الخنادق فعلاً يقاتلون بعضهم بعضاً، كما هجس زياد. كلما تذكّر اللبنانيون تلك الأغنية قالوا إن زياد كان يتنبأ بالحرب، لكن زياد لم يكن يقرأ الغيب، إنما هو حدس الفنان.

بالمثل حين وضع زياد كلمات وموسيقى أغنية «خلّيك بالبيت»، الأغنية التي تفيض رقة ومشاعر، لم يكن يخطر في باله أن اسم الأغنية سيغدو شعاراً لحملات تجاوزت الجغرافيا اللبنانية، لتشمل بلداناً عربية أخرى، في إطار حثّ الناس على ملازمة بيوتهم، وتحاشي الاختلاط ما أمكن، تجنباً لمخاطر تفشي «كورونا».

حديثنا هنا عن الأغنية وعن زياد لا عن «كورونا». في صيف 2003 وقف الكاتب والباحث في الموسيقى سليم إلياس سحّاب عند هذه الأغنية في إطار محاضرة له، عن أثر زياد الرحباني في التجربة الغنائية لوالدته السيدة فيروز. عنوان المحاضرة كان: «فيروز بألحان زياد الرحباني».

أول أغنية لحنها زياد لفيروز كانت: «سألوني الناس عنك يا حبيبي». أذكر أن زياد قال للإعلامية منى الشاذلي في حوار لها معه على التلفزيون المصري، إنه كان قد كتب لها كلمات أخرى، لكن عندما استمع عمّه منصور للحن أعجبه كثيراً، وكتب له كلمات «سألوني الناس» لتغنيها فيروز تحية لشقيقه عاصي الذي غاب لأول مرة عن حفل لفيروز بسبب إصابته يومها بجلطة قلبية.

قال زياد للشاذلي أيضاً إنه في هذه الأغنية بالذات، وربما في سواها، كان متأثراً بموسيقى سيد درويش. وفي سنوات شبابه قرأتُ لزياد قولاً عن اعتقاده بتشابه مناخ أغانيه الأولى، كلمات وموسيقى، مع مناخ الثنائي أحمد فؤاد نجم والشيخ إمام. لكن لإلياس سحّاب رأياً آخر، فهو يرى أن زياد «شرب المقامات الشرقية من الفولكلور اللبناني و(شغل) زكي ناصيف ومن ثم آلة البزق التي ورّثه إياها عاصي الذي ورثها بدوره عن والده حنا».

تُعد «خلّيك بالبيت»، برأي سحّاب، نموذجاً راقياً من تفرّد زياد مع صوت فيروز، ورافق تطوّره في هذه الأغنية «نضوج مطلق وبراعة في التوزيع الموسيقي»، لما تميّز به من حساسية وإتقان في التوزيع جعله يجمع، بنجاح، بين «كلاسيكية» فيروز وروح الفانتازيا الخاصة بشخصيته الموسيقية.