40 سنة تمرّ على الربيع الأمازيغي بالجزائر، ماذا تحقق من مطالب رفعها المتظاهرون الذين كانوا شباباً وأصبحوا اليوم كهولاً، وبعضهم رحل إلى العالم الآخر وربما في حلقه غصة، وطعم فرحة لم تكتمل؟
كان ذلك في 20 أبريل (نيسان) 1980، ينزل الكاتب والروائي والأنثروبولوجي، سيبويه اللغة الأمازيغية (كما يحلو لي أن أسميه)، مولود معمري (1917-1989) برحاب جامعة تيزي وزو لإلقاء محاضرة حول "الشعر الأمازيغي القديم"، الطلبة مُجَيَّشون ومجندون من أجل قضية الهوية التي لم تحسم بشكل واضح في جزائر بعد الاستقلال، تمنع السلطة الممثلة في والي الولاية الكاتب من إلقاء المحاضرة، وبعدها حدث الذي حدث، إضرابات وتظاهرات وزحف على العاصمة من بلاد القبائل الكبرى والصغرى والمدن الأخرى.
بعد 40 سنة من الأسئلة والصراعات، تميزت بذهاب نظام الشاذلي بن جديد (1979-1992) واغتيال الرئيس محمد بوضياف (29 يونيو/ حزيران 1992) والإتيان بعبد العزيز بوتفليقة رئيساً ليحكم 20 عاماً (1999-2019) ليتم إسقاطه بحراك شعبي عارم انطلق في 22 فبراير (شباط) 2019، وتدخل الجزائر ولا تزال في حالة من الترقب السياسي، في انتظار إقرار دستور جديد كما وعد بذلك الرئيس الحالي عبد المجيد تبون، 40 سنة تمر على الربيع الأمازيغي والأسئلة المطروحة كثيرة والأجوبة الشافية لا تزال معلقة سياسياً وهوياتياً، بعد 40 سنة من نزول قضية الهوية الأمازيغية إلى الشارع، لا بدّ من الاعتراف بأن هناك مكاسب تحققت تحت ضغط المجتمع المدني وبعض القوى السياسية، والتي دفعت بالنظام إلى الرضوخ لبعض المطالب، إذ أقر الدستور الأول في تعديلات الرئيس بوتفليقة بأن اللغة الأمازيغية هي لغة وطنية، ثم ما فتئ أن عدّل الدستور للمرة الثانية ليقرّ بدستورية اللغة الأمازيغية، إذ اعتبرها "لغة وطنية ورسمية إلى جانب اللغة العربية"، ولم يكن ذلك الاعتراف سوى خطة سياسية في البحث عن بقاء في السلطة لعهدة خامسة، لم يكن ذلك أبداً إيماناً بالقضية الأمازيغية ولا باللغة الأمازيغية التي أعلن بوتفليقة عداوته لها منذ حملته الانتخابية للولاية الأولى، إذ صرّح وبكل وضوح "لن تكون اللغة الأمازيغية لغة رسمية ما دمت أنا في السلطة"، ولأن دسترة اللغة الأمازيغية من قبل نظام لم يكن يؤمن بها أساساً، فقد ظل كثير من القضايا الإجرائية معلقاً، وظل الدستور حبراً على ورق، فلم يعمم تعليم اللغة الأمازيغية على تلاميذ مدارس البلاد، حتى وإن كان قد حقق بعض التقدم الطفيف، ولم تمنح لوزارة التربية الوطنية الإمكانيات "الاستثنائية" لدعم هذه اللغة على مستوى التكوين والتعليم، وظلت المحافظة السامية للغة الأمازيغية، وهي مؤسسة تابعة للرئاسة وقد أنشئت عام 1995 في ولاية الرئيس اليمين زروال، من دون رئيس مدة 15 سنة ولا تزال من دون رئيس حتى الآن، وإلى جانب هذه المؤسسة، تم إنشاء الأكاديمية الجزائرية للغة الأمازيغية بحسب الدستور الجديد ولا تزال حبراً على ورق ولم تصدر القوانين التنفيذية بشأنها.
لكن بعد 40 سنة على مرور الربيع الأمازيغي، ما الذي يمكننا الخروج به من قراءات لمعركة عن الهوية لا تزال مفتوحة على كل الاحتمالات، ولا يزال النقاش حولها بين النخب قائماً بأشكال متعددة تصل مرات حدّ العنف اللفظي، على وسائل التواصل الاجتماعي، وهو ما دفع بالسلطة الحالية إلى العمل على سنّ قانون لتجريم الكراهية والعنصرية.
ثلاثة دروس يمكن استخلاصها من الربيع الأمازيغي، الدرس الأول، أن الشعر والثقافة هما قوة ناعمة ناسفة، والثقافة الشعرية ليست مسألة ثانوية أو هامشية أو "قضية كلام فارغ"، الشعر والحديث عن الشعر مسألة سياسية أساساً، وأن الشعر قادر أن يثير المعارك حتى ونحن في زمن التكنولوجيا المعقدة، فمحاضرة الأديب والباحث مولود معمري عن الشعر هي من حرّك السياسي والمناضل والمرأة والإطار والحزب والجمعية، وخلخل النظام القائم، وأسقطه في نهاية الأمر.
لقد غيّر الربيع الأمازيغي من صورة الشاعر والشعر في مخيال الجزائري، فلم يعد الشاعر هو ذلك "المثقف اللامسؤول"، لم يعد "ذلك الذي يتبعه الغاوون"، بل أصبح الشعر كما الموسيقى سلاحاً سياسياً كبيراً في منطقة القبائل خصوصاً، والملاحظ على المستوى السوسيو ثقافي أن الثقافة تلعب دوراً مركزياً في شحذ الوعي الجمعي، لذا فقراءة الكتب الأدبية والفكرية والسياسية وظهور المقاهي الأدبية في هذه المنطقة تعد ظاهرة سياسية وثقافية بارزة تميزها عن المناطق الجزائرية الأخرى.
الدرس الثاني، لقد علّمنا الربيع الأمازيغي أن "الجهوياتية" أو "المناطقية" ليست مسألة سلبية، إنها، على العكس من ذلك، هي الإسمنت الحقيقي لدولة قوية، فحين تقوم "الجهوياتية" أو "المناطقية" على قاعدة ديمقراطية صحيحة، فإنها تشكل عصب الحكامة الصحيحة، بما تمثله من شفافية في التسيير، وتسمح للمواطن من رقابة الحاكم المحلي ومحاسبته، كما أنها الطريق السليمة إلى منافسة وإلى تكامل "جهوياتي" "مناطقي"، وفي الوقت نفسه تساعد على اكتشاف العبقرية والذكاء المحليين وأيضاً الثروات المحلية المختلفة، والنظام المركزي المعتمد على حكم "المناطقية" و"الجهوياتية" نظام متغير ومتطور وذكي وحداثي، وتقل فيه مظاهر الفساد والقمع والبيروقراطية، وتحرير الطاقات الإبداعية على المستوى الوطني، كل هذا الدرس اكتشفناه من ظاهرة الربيع الأمازيغي الذي كان يمكن استثماره في تثمين الوحدة الوطنية بتحرير جميع الطاقات ومحاسبتها في الوقت نفسه والسماح لها أيضاً، وفي المقابل، بمحاسبة المركز وتحريره من أعباء التفاصيل اليومية للتسيير والتفكير في طرق تنموية معاصرة تخرج البلد من التخلف في التسيير والتحرر من العقلية البائدة.
الدرس الثالث، حين أدرك النظام التقليدي أن القوة السياسية التي تحرّك الربيع الأمازيغي، هي حركة وطنية وشعبية صادقة ولا تريد إلا انخراط البلد في المعاصرة السياسية برؤية ديمقراطية، عمل على تجنيد الإسلاميين في هذه المنطقة، وبدأ الاشتغال على "أسلمة" منطقة القبائل، لقد أصبح الرئيس الجزائري الشاذلي بن جديد (1979-1992)، كما كان أنور السادات في مصر، لعبة في يدّ الإخوان المسلمين، لقد وجد الشاذلي بن جديد نفسه محاطاً من قبل ممثليهما الأكثر تشدداً والأكثر رمزية ودعاية وهما الشيخ محمد الغزالي والشيخ يوسف القرضاوي، لقد استقبلا في الجزائر استقبال الأنبياء، جاءا للإقامة بالجزائر وللإشراف على الجامعة الإسلامية بقسنطينة وإدارتها، وقد أصبح الشيخ الغزالي الصوت الأول في الجزائر، صوته أقوى من أي حزب ومن أي مؤسسة، بما فيه حزب الرئيس الحاكم، أي حزب جبهة التحرير الوطني، لقد سكن الشيخ الغزالي التلفزيون الوطني وأصبح برنامجه ليوم الاثنين موعداً لتجنيد الشباب وتجييش الجيل الجديد ضد الديمقراطية واعتبارها كفراً وزندقة، وكذلك خطب الجمعة التي كان يلقيها ومحاضراته هنا وهناك، ومن هنا بدأ التخطيط لاختراق منطقة القبائل التي عرفت بقوة تياراتها الديمقراطية المدنية، اختراقها من خلال أسلمتها إسلاماً إخوانياً، أي إسلام الإخوان المسلمين، وانطلقت حركة بناء المساجد وتعددت قاعات الصلاة في الجامعات والثانويات التي كانت عبارة عن حلقات تجنيد للإخوان المسلمين ضدّ الفكر الديمقراطي، وسمح النظام بتغريق المجتمع المدني بتأسيس جمعيات دينية هي الذراع الميداني لجماعة الإخوان المسلمين في مدن كثيرة وبالأساس في بجاية وتيزي وزو والمدية وبومرداس والعاصمة وغيرها من أجل محاصرة المد الديمقراطي الذي حملته رياح الربيع الأمازيغي.
لقد حرص النظام الشاذلي بن جديد وتبعه في ذلك نظام عبد العزيز بوتفليقة في العمل على ضرب الحسّ الديمقراطي والثقافة السياسية التنويرية في منطقة القبائل من خلال شراء الذمم والعمل على أسلمة المجتمع بطرق جديدة، أي زحزحة الإسلام الأمازيغي الذي هو بالأساس إسلام متفتح وقابل للآخر، وأيضاً مرتبط بالتصوف كثقافة روحانية، وتعويضه بالإسلام الإخواني، وحاول النظام أسلمة كل شيء قد يحيل على الهوية الأمازيغية، حتى أنه وصل إلى العمل على أسلمة "اللباس النسوي القبائلي" (أي العباءة القبائلية) التي تحمل في ألوانها ورموزها تراثاً عميقاً وتفاصيل لتاريخ شمال أفريقيا، إننا نلاحظ اليوم عملية مسخ تتعرض لها "العباءة النسوية القبائلية" بحجة تطويرها وتلاؤمها مع الدين الإخواني، مع أنها عباءة فيها حشمة كبيرة.
انطلاقاً من هذا الوضع، فعلى المثقفين والفنانين والسينمائيين والحرفيين والجمعيات النسوية أن يسرعوا في رفع عارضة إلى وزارتي الثقافة والسياحة الجزائريتين يطالبونهما العمل على إنقاذ العباءة النسوية الأمازيغية وحمايتها من التشويه، وذلك بتسجيلها في سجل التراث الثقافي الإنساني العالمي لدى منظمة اليونيسكو.
التعليقات