الكلمة التى ألقاها وزير الخارجية سامح شكرى أمام مجلس الأمن كانت مكتوبة بعناية وإتقان شديدين، كانت جامعة شاملة ومحققة لأهدافها وموضحة لموقف مصر منذ بداية المفاوضات بشأن سد النهضة وحتى تاريخه، ولقد أعادت إلى الأذهان عراقة الدبلوماسية المصرية وريادتها، كما ذكرتنى بفيلم «السنة النهائية»، وهو فيلم وثائقى عُرض مطلع عام 2018، ويدور «The Final Year» حول السياسة الخارجية الأمريكية فى العام الأخير من حكم الرئيس الأمريكى السابق أوباما، وكيف كان وزير الخارجية حينذاك جون كيرى والمجموعة الاستشارية لأوباما يحاولون بكل جهد ومثابرة وصبر إنهاء عدد من الملفات التفاوضية الصعبة والمعلقة لوضع مسار جديد للسياسة الخارجية قائمة على مفهوم التعاون بدلاً من الصراع والتدخل العسكرى، حتى مع من كانت تراهم أعداء تقليديين مثل روسيا وإيران وكوبا، أو منافساً كالصين، ولقد خلت فترتى حكم أوباما من مشاركة جنود الجيش الأمريكى فى صراعات خارجية، ورغم أن البعض وجد أن تلك السياسة أدت إلى تراجع الدور والنفوذ الأمريكى فى الشرق الأوسط، وخلّفت فراغا سارع إلى ملئه الروس والإيرانيون والأتراك، إلا أن أوباما كان متسقا مع قناعاته التى قدمها كجزء من برنامجه الانتخابى خلال حملته الرئاسية الأولى، كان شعار حملته «نعم نستطيع»، نستطيع أن نغير العالم بالسلام لا الحرب، بالتفاوض بحسن النية بدلاً من الحروب الباردة.

(2)

مصر حاولت تطبيق نفس المفهوم الذى ظهر فى المثابرة وحسن النية مع المفاوض الإثيوبى المتعنت بغير حق، كلمة مندوب إثيوبيا لدى مجلس الأمن دليل على ذلك، كانت مليئة بالمغالطات وخلط الأوراق، خاصة فيما يتعلق بمشروع توشكى، حين ادعى أن مصر اتخذت قرارا فرديا بتنفيذ المشروع الذى يستهلك كثيرا من المياه، وأضاف أن بلاده تقدمت بشكوى عام 1995 اعتراضا على هذا المشروع، وبالتالى كانت هناك خطوات أحادية سابقة من جانب مصر، ولقد رفض «سامح شكرى» هذه الادعاءات واعتبرها تدخلا فى الشأن المصرى الداخلى، فمشروع توشكى لم يؤثر على حصة دول حوض النيل من المياه، وإن كانت هناك محاسبة على هدر المياه، فإثيوبيا ستكون الأولى فى طابور المساءلة، فهى بلد يسقط عليه متوسط أمطار يصل إلى 936 مليار متر مكعب سنوياً من المياه لا يستفيد منها بل يريد حجز القليل عن دول المصب.

(3)

عزم مصر على تدويل الأمر كان حثا منها للمجتمع الدولى على إدراك أن التأثير السلبى للتعنت الإثيوبى فى المفاوضات وافتئاتها على حق مصر التاريخى فى مياه النيل لن يطول مصر وحدها ويبقى داخل حدودها، لكن ستكون له آثار مباشرة على السلم العالمى فى منطقة تتزاحم فيها الصراعات والنزاعات بالفعل، ولذا خاطبت مجلس الأمن حتى يضطلع بمسؤوليته وفق ميثاق الأمم المتحدة.

السفيرة الأمريكية لدى الأمم المتحدة «كيلى كرافت»، قالت أثناء اجتماع مجلس الأمن الخاص بسد النهضة إن «هذه المشكلة معروضة على المجلس، لأن الوقت قصير، ونافذة التوصل إلى اتفاق قد تغلق بسرعة» عبارة دالة تستحق التوقف عندها، خاصة أن الولايات المتحدة كانت راعية للمفاوضات، مطلعة على مجرياتها فى إحدى مراحلها. وننتقل إلى السؤال المهم: ماذا لو أُغلقت نافذة التواصل، ووجد المصريون أن هناك تهديدا لحقهم فى مياه النيل بسبب التعنت الإثيوبى، وتقاعس النظام الدولى عن القيام بدوره كأداة ضغط لترسيخ مفهوم السلم والأمن العالمى؟، النيل يمثل شريان الحياة للمصريين منذ آلاف السنين، حماية حقهم التاريخى والعادل فى مياه النيل دفاع شرعى عن النفس وهو حق منصوص عليه فى كل القوانين والمواثيق الدولية والأعراف المحلية.

أدرك أن بلدى لديه الكثير من الملفات الساخنة المفتوحة غربًا وشرقًا، وأُضيفت إليها جائحة كورونا وتداعياتها.. لكن يظل النيل بالنسبة للمصريين أهم ملف.. النيل ليس مجرد خط أحمر، لكنه شريان حياة للمصريين، ماؤه ممزوج بدمائهم، ومصيرهم مرتبط بوجوده وسريانه.