إذا كان هناك قتيل، فإنه -حكماً وقطعاً- هناك قاتل أو أكثر!

وإذا كان هناك ضحية، فإنه -حتماً- هناك جانٍ أو جناة!

وإذا كان هناك تفجير شديد الدمار، فإنه -مما لا شك فيه- هناك من فكر فيه، ومن اشترى لوازمه، ومن سهَّل تهريبها، ومن جهَّزها، ومن فجَّرها ومن تستَّر على كل أركان الجريمة الشنعاء.

كل هذه الأساسيات التى تبدو منطقية تداهم عقولنا وقلوبنا ونحن على أعتاب الاستماع إلى قائمة الاتهام بالمحكمة الدولية الخاصة باستشهاد دولة الرئيس رفيق الحريرى، رحمه الله.

بعد 15 عاماً، وبعد آلاف الساعات، ومئات الآلاف من الدقائق، وعشرات الشهود، ومئات الملايين من الدولارات سوف نعرف الحقيقة، وسوف تستريح جثة الضحية فى قبرها، وتنتصر السماء لظلم أهل الأرض، وتنطق العدالة بأسماء الجناة الفاعلين، والمحرّضين، والداعمين، والمشاركين، والمموِّلين.

الأمر المؤكد أن هناك محكمة سوف تنطق بأحكامها بعد 15 عاماً من البحث والتدقيق والنظر والاستجواب والتحرى والمتابعة.

والحكم الذى صدر «أمس الثلاثاء» هو أول حكم يصدر عن المحكمة منذ إنشائها عام 2007، ويُتوقع أن تتلوه تفاصيل وحيثيات أخرى، وسوف يتاح للدفاع عن المتهمين الذين صدرت بحقهم إدانات الاستئناف وتوفير حق الرد لهم.

ويُذكر أن هذه المحكمة استمعت فى الفترة من 2014 إلى العام 2018 إلى 297 شاهداً أساسياً، وأنها استطاعت عبر حصولها على وثائق ومستندات وتسجيلات هاتفية أن تتوفر لها تفاصيل دقيقة تمكّنها من تحديد هوية المحرضين، والداعمين، والمنفذين، والمتسترين على الجريمة التى أودت بحياة الرئيس رفيق الحريرى وكبار مساعديه وبعض المارة الذين تصادف وجودهم فى مكان التفجير المروع.

اليوم نبدأ فى تحليل الحكم القائم على أدلة ظرفية قانونية:

أهم ما فى وقائع الحكم:

أنها استمعت لشهادات وإفادات 293 منهم 150 شاهداً قدموا إفاداتهم كتابياً حرصاً على سلامتهم.

الحكم استند على 3 آلاف وثيقة أساسية، ومكون من 2600 صفحة، فيه 150 صفحة من مقتطفات أدلة.

اعتمد رأى المحكمة على أحكام ظرفية تعتمد أساساً على متابعة تقنية دامغة لا تقبل الشك لأجهزة الاتصالات الهاتفية التى تم شراؤها هى والخطوط من مدينة طرابلس، ولم تُستخدم أبداً بعد حدوث جريمة الاغتيال.

أنه بالتدقيق فى كافة الاتصالات وملايين الاتصالات النصية يتضح أن المتهمين الأربعة فى القضية يتوفر دليل دامغ لا يرقى إليه الشك على تورطهم فى حادث الاغتيال.

وجاء فى نطق الحكم أيضاً ما يؤكد أن الجريمة ارتُكبت من خلال سيارة ميتسوبيشى بيضاء يقودها انتحارى مجهول الهوية قام بتفجير نفسه بمادة «تى. إن. تى» تزن 2.5 طن من هذه المادة.

راح ضحية التفجير 21 شخصاً، بالإضافة إلى السيد الحريرى الذى كان يقود سيارته بنفسه وبجانبه الوزير باسل فليحان رحمه الله.

واستقر لدى المحكمة أن المتهمين كانوا يراقبون منذ أشهر تحركات وزيارات الرئيس الحريرى وأسلوب حراسته.

وبالمتابعة التقنية الدقيقة لما يُعرف بـ«الاقتران المكانى» لأجهزة الهواتف المتوفرة لدى فريق الاغتيال تبين أنهم هم من قام بالمراقبة والمتابعة لتنفيذ الجريمة.

قد نتعرف على القتلة اليوم، وهو أمر شكّك فيه حزب الله اللبنانى دائماً وأبداً وبشكل مسبق ومبكر، على أساس أن الحزب يعتبر أن هذه المحكمة وهدفها وتشكيلها وأسلوب عملها وإجراءاتها كلها ليست «محايدة»، ولكنها فيها «كيد سياسى» يستهدف الإساءة للحزب على حد وصف الحزب نفسه.

الأمر المؤكد أن السؤال الذى طُرح بعد ظهيرة يوم 14 فبراير 2005، يوم الانفجار العظيم، هو: لماذا قتلوا رفيق الحريرى؟

قد نختلف على أسماء القتلة أو المحرضين أو الداعمين، لكن المؤكد أن هذا الانفجار كان له هدف سياسى يتعدى تحويل أبرياء إلى جثث وأشلاء متفحمة!

وأذكر أننى منذ 8 سنوات تلقيت دعوة كريمة على الغداء من الصديق الدكتور نديم الملا، أحد أهم مساعدى الشهيد رفيق الحريرى، والمستشار الاقتصادى الحالى لسعد الحريرى، برفقة الصديق عمر المشرفية، يومها سألت الدكتور نديم: «لماذا قتلوا رفيق الحريرى، الرجل كان خارج الحكومة يوم قُتل، والسلطة لم تكن فى يده، ودولة السيطرة الأمنية السورية ممسكة -بقوة- بمفاصل الدولة فى لبنان»؟؟

ابتسم د. نديم وقال: «رفيق الحريرى مدرسة سياسية خارج التركيبة التقليدية، إنه منهج تفكير مخالف تماماً لكل هؤلاء».

وأضاف د. نديم: «لم يكن الهدف هو التخلص من رفيق الحريرى الإنسان وتحويله إلى جثة، ولكن كان الهدف هذا المنهج من التفكير وهذا التوجه فى السياسات».

وأذكر أن معارضاً سورياً يعيش فى باريس قال لى: إننا الآن نعيش فى مرحلة التقسيم والفرز السياسى التى يمكن أن نطلق عليها مرحلة «عين - عين»!

تعجبت وسألته: وماذا تقصد بحالة «العين - عين»؟

قال: هؤلاء يقسمون ويفرزون سياسياً كل من يتعامل معهم على أنه إما «عدو» أو «عميل».

هنا ضحكت، ألا يمكن للإنسان أن يكون «صاد» أى صديق؟

قال: «الصديق قد يصدقك القول، وقد يختلف معك وهذا غير مقبول، الصيغة الوحيدة المقبولة للعلاقة هى أن تكون عميلاً، بمعنى الطاعة الكاملة، والولاء الأعمى، وتنفيذ الأوامر والرغبات دون مناقشة أو جدل أو حتى استفسار».

والذى يعرف الحقائق يعرف أن الرئيس الحريرى كانت له علاقات طيبة مع طهران، وزارها عدة مرات بترتيب مع مستشاره مصطفى ناصر رحمه الله، وهو أحد الرجال المقربين من الحرس الثورى، وعلى علاقة ممتازة بحزب الله اللبنانى.

والذى يعرف الحقائق يعرف أن الرئيس الحريرى كانت تربطه علاقة تفاهم جيدة مع الرئيس حافظ الأسد وكافة أفراد أسرته.

وقام الرئيس رفيق الحريرى ببناء عدة قصور ومشروعات فى دمشق من ماله الخاص، بل إنه قام بتحديث وبناء أماكن كثيرة فى قصر الحكم المعروف بقصر «المهاجرين» بدمشق، وحينما توفى باسل الأسد فى حادث سيارة قام ببناء المقبرة الخاصة به.

كان الحريرى قريباً من نائب الرئيس السورى عبدالحليم خدام، والعماد حكمت الشهابى، رئيس الأركان، وكثير من الساسة والإعلاميين ورجال الحزب الحاكم فى سوريا.

كل ذلك لم يشفع له سياسياً.

وعلى المستوى الشخصى كانت علاقة رفيق الحريرى بسماحة السيد حسن نصر الله، الأمين العام لحزب اللبنانى، وثيقة، دائمة التواصل، لها قنوات سرية متعددة، وفيها لقاءات شخصية لم يُكشف عنها!

ويُذكر أن السيد حسن نصر الله قام -شخصياً- بزيارة منزل عائلة الشهيد فى منطقة «قريطم» ببيروت لتقديم واجب العزاء، وهى سابقة نادرة الحدوث على أساس أن حركة الرجل شديدة الحرص والتقييد بسبب حالة «الطوارئ الأمنية الدائمة» المحيطة بشخصه.

إذا اعتبرنا أن مشروع اغتيال رفيق الحريرى يخضع للمكسب والخسارة، فهل ربح من خططوا له ونفذوه؟

بمنطق الربح والخسارة، لم يربحوا شيئاً، بل إن رفيق الحريرى اليوم بعد 15 عاماً من اغتياله أكثر قوة وهو فى قبره أكثر مما كان حياً يُرزق!

حقاً، قُتل رفيق الحريرى، وأصبح فى التراب، لكن دمه سيظل يطارد قاتليه فى الحياة وفى الآخرة.

قلبى اليوم مع أنصار الحريرى، ومع عائلته، ومع أخى سعد.

غداً.. الدوافع السياسية للجريمة كما جاءت فى الحكم.