في قصة حب مي زيادة هزات كثيرة تستحق أن يتوقف عندها الباحث.. من يرى الناس من حولها يحسدها على السعادة التي كانت فيها، لكننا عندما نقترب من المشهد أكثر، نرى أن المعاناة كانت كبيرة.. تتجاوزها.. محبوبة لا تحب إلا نفسها.. ربما لأنها لم تجد الرجل الذي يقف أمامها ندًا للند وليس المستسلم لها أبدًا.. تأتي إلى صالونها، تحت ذراعها ملفات وأوراق، تضعها على المكتب قبل أن تحيل الكلمة لمدير الجلسة.. جميلة ومعطرة ورقيقة، ولكن أيضًا بعقل متوقد.. بدل أن تكون الأيقونة المحبوبة والمفكرة أيضًا، ينسحب كل شيء ولا تبقى إلا مي الجميلة، المعشوقة التي يتمناها كل واحد.. كان هذا يرضي أنانية المعشوقة، لكنه يكسر العالمة والمفكرة.. أنا الذات تقتل أنا العقل..

مصطفى صادق الرافعي الذي يكبر مي بسنوات كثيرة.. في رتبة والدها من حيث العمر.. كان من الذين افتتنوا بها، يأتي إلى الصالون لرؤيتها والامتلاء بأنوثها وحضورها.. أحبها بجنون لدرجة أنه لم يعد يرى غيرها، حتى أصبح يفتح ويغلق عينيه عليها.. هجر بسببها زوجته، وابتعد عن أولاده الكثيرين.. وبدأ يميل نحو جنون غير معلن.. الجنون العشقي لولا اللغة التي أنقذته، وتخييله الحي، لانتهى به الأمر إلى أحد مستشفيات الأمراض العقلية.. تخيلوا رجلا عاقلا متدينًا ومفكرًا إسلاميًا، يقطع المسافات الطويلة، بين طنطا والقاهرة.. متحملا متاعب أدخنة القطارات القديمة، والمحطات الباردة، صباح كل يوم ثلاثاء لا لشيء سوى ليستمع إلى ما تقوله مي زيادة.. ولا هم له من حضور صالونها إلا الاستئناس بحضورها والكتابة عنها.. هل الدافع ثقافي فقط يتعلق بالنقاشات المعاصرة والحي التي ينظمها المهزومون؟ طبعا لا، بل هو أكبر من ذلك.

الممعن في حياة صادق الرافعي يلمس أشياء أخرى تتعلق بطبيعة حبه لمي.. لم يكن خياره سهلا.. فقد كانت مي امرأة شاقة بكل المقاييس لأن منافسيه كثر، ويوصلون ما يريدونه لمي وتسمع حنينه ويسمعون قلبها.. العقاد، خليل مطر، حافظ إبراهيم، طه حسين، لطفي السيد، عبدالقادر المازني، داود بركات، أنطوان الجميل، وسلامة موسى، وإسماعيل صبري باشا وغيره، كان عليه خوض حرب ضروس لم يكن قادرًا عليها في الجلسات.. لم تبق أمامه إلا الندوة والكتابة شاحذًا متخيله إلى الأقاصي.. وتطور هذا الحب بالتواتر إلى أن وصل تقريبًا إلى حالة الجنون.. أصبح يقتفي خطاها ويحضر لكل ندواتها.. صار حبه معضلة حقيقية، كان على مي تسيير ذلك بكل التقدير الذي يليق بها.. يوم الثلاثاء كان مقدسا بالنسبة للرافعي، يقضيه عندها من لحظة وصوله حتى مغادرته المكان.. لكن مع الزمن أصبح مقلقا.. كان ينتقل مباشرة من محطة القطار إلى بيتها.. ويكون أول ما يصل وآخر من يغادر.. وكان عليها أن تراعي وضع سمعه المعدوم.. لنا أن نتخيل كيف سيكون داخل قاعة كل الحاضرين فيها يسمعون جيدًا.. كان لا يفهم ما يقال، حتى أصدقاؤه الذين كانوا يسعدونه بالكتابة له حتى يفهم ما يقال.. الشيء المؤكد الوحيد أنه كان أصدق عشاق مي.. كان لا يسمع شيئًا ويتحرك بوجدانه العميق.. وانتقل شعره إلى غنائية درامية وعدم ثقة في المجتمع.. يساير الشفاه ويحاول أن يشتق منها لغة.. لهذا كتب شعرًا كثيرًا ودواوين في مي لدرجة أنه تخيلها تبادله هذه العاطفة، مما اضطر مي أن تسر لبعض أصدقائها أنه لا علاقة لها بالرافعي وأنها تقدر عواطفه النبيلة والسخية والإنسانية.

مصطفى صادق الرافعي يشكل بهذا كله، حالة متفردة في الثقافة العربية.. فقد أوغل في حب مي حتى أصبح يتخيلها في كل مكان.. حالة من الجنون.. لم تسر معه على نفس الوتيرة.. ولكن من هذا الحب الوهمي الذي سكنه، كتب شعرًا جميلا يشكل اليوم رصيده العشقي لمي: «السحاب الأحمر».. و«أوراق الورد».. و«رسائل الأحزان».. وخلق لحظات عشقية بينهما.. وموارات أنيسة.. عندما سألها بعض الأصدقاء، نفت كل شيء.. وأنكرت وجود أية علاقة من أي نوع بينهما.. حتى الصداقة بقيت محدودة وأفسدتها جزئيًا مبالغاته إذ جعل من أحاسيسه الجياشة قصته كلها.. وآمن في أعماقه، أنها هي أيضًا تحبه.. حالة نادرة في نمط الحب من طرف واحد.. ولما وصلتها مبالغاته العشقية، بعثت إليه طالبة منه أن يكف عن أوهامه والإساءة لها في كل مناسبة، فهو كان يختلق الأحاديث والغراميات وحوارات وكلها في خياله.. هي كانت في واد وهو في واد آخر.. يوم لامته على كلامه وطلبت منه التقليل من كلامه، والتوقف عن الزيارات وعن قول الشعر فيها.. صمت حتى مات متحسرًا.. ألا يذكر هذا بأساطير الحب القديمة.. ألا يجسد الرافعي حالة من حالات مأساوية الحب المستحيل التي صاحبت الثقافة العربية والإنسانية؟