يعتقد البعض أنها نهاية العالم، حروب وأزمات وفتن وقلاقل سياسية حتى في دول عظمى وضائقة اقتصادية وتقلبات مناخية عنيفة وكوارث طبيعية..، ليتوِّج كل ذلك بفيروس مجهري غير مسبوق اكتسح العالم وأزهق حياة الملايين وعطَّل قطاعات كبيرة وأصاب الاقتصاد في مقتل وشلَّ حياة البشر بكل معنى الكلمة.

لكن هل الصورة قاتمة لهذه الدرجة؟ وهل التحديات التي نمر بها غير مسبوقة بالفعل؟ وهل صحيح أن البشرية لم تعرف معاناة كهذه من قبل؟ وهل يحق لنا أن نحسد آباءنا وأجدادنا على سعادتهم وأن الله تعالى توفَّاهم قبل أن تصبح الحياة قاسية ومعقدة إلى هذا الحد؟، لا يا أخواني، لا اعتقد أننا يجب أن نذهب إلى هذا الحد من السوداوية وجلد الذات.

لن أغوص في التاريخ الغابر في القدم، والمآسي التي مر بها أقوام كثر قبلنا على هذه الأرض منذ فجر الخليقة، بما في ذلك النزاعات الدموية على السلطة التي حصدت أرواحًا لا حصر لها، والغزو الخارجي مثل الغزو المغولي بقيادة هولاكو الذي لم يبق خلفه ولم يذر، لا بشر ولا شجر ولا حتى حجر.

بل أعود إلى التاريخ القريب، فلو أن شخصًا ولد في العام 1900 مثلاً، -ربما نجد شخصًا كهذا لا زال حيًا بالمناسبة-، فهو قد عاش وربما شارك في الحرب العالمية الأولى التي اندلعت خلال الفترة 1915 وحتى العام 1919 وحصدت أرواح الملايين من البشر في وقت لم يكن فيه تعداد سكان العالم كما هو عليه الآن، وتسببت بعاهات وآهات ومرارة جعلت من ماتوا فيها أكثر حظًا ممن بقوا أحياء.

وكأن المصائب لا تأتي فرادى، فحتى قبل أن تضع الحرب العالمية الأولى أوزارها شهد العالم أزمة صحية آثاراها التدميرية أكثر بكثير من جائحة كورونا، وهي جائحة إنفلونزا 1918 أو ما عرف بالإنفلونزا الإسبانية والتي انتشرت في أعقاب الحرب العالمية الأولى في أوروبا والعالم وأصابت نحو 500 مليون شخص مات منهم ما بين 50 إلى 100 مليون، أي ما يعادل ضعف المتوفيين في الحرب العالمية الأولى، والغالبية العظمى من ضحايا هذا الوباء كانوا من البالغين واليافعين الأصحاء بعكس ما يحصل عادة من أن يستهدف الوباء كبار السن والأطفال والأشخاص المرضى أو ضعيفي المناعة.

ما أن كاد العالم يلتقط أنفاسه بعد الحرب والجائحة المدمرتين، حتى حصلت ضربة اقتصادية قاسمة عُرِفت بالكساد الكبير أو الانهيار الكبير كأكبر أزمة اقتصادية عرفتها البشرية، بدأت في العام 1929م واستمرت تداعياتها طيلة عقد الثلاثينيات وحتى بداية عقد الأربعينيات، وكان تأثير الأزمة مدمرًا على كل الدول تقريبًا؛ الفقيرة منها والغنية، وتشردت عائلات بكاملها وصارت تنام في أكواخ من الكرتون وتبحث عن قوتها في مخازن الأوساخ والقمامة.

هذا الوضع الاقتصادي المتأزم عالميًا كان أحد أسباب اندلاع الحرب العالمية الثانية في العام 1939 وحتى العام 1945، وهي الحرب الأوسع في التاريخ، وشارك فيها بصورة مباشرة أكثر من 100 مليون شخص من أكثر من 30 بلدًا، وأدت إلى وقوع ما بين 50 و85 مليون قتيل حسب التقديرات؛ لذلك تعد الحرب العالمية الثانية أكثر الحروب دموية في تاريخ البشرية.

هل ارتاح البشر وتعلموا الدرس هذه المرة؟ بالطبع لا، فقد اندلعت حرب باردة بين القطبين المنتصرين في الحرب العالمية الثانية: الاتحاد السوفيتي والدول التي تدور في فلكه بحلف وارسو، والولايات المتحدة الأمريكية مع حلفائها في حلف شمال الأطلسي، وقد اندلعت الكثير من الحروب مباشرة أو غير مباشرة بين هذه الحلفين: في فيتنام وشبه الجزيرة الكورية ومصر وغيرها، إضافة إلى ثورات وانقلابات في كثير من دول العالم، وربما يذكر بعضنا ما يسمى بـ «أزمة الصواريخ الكوبية» في أكتوبر 1962 عندما حبس العالم أنفاسه خشية اندلاع حرب نووية كادت تحدث بالفعل.

نحن في منطقتنا العربية لدينا ما يكفي طبعًا من الأهوال والمحن التي عشناها في آخر مئة عام، ربما أبرزها قيام دولة إسرائيل وما أسفر عنه ذلك من حروب عام 1967 و1973، ومواجهات كثيرة أقل حدة في لبنان وسوريا والأردن ومصر، والثورة الإسلامية في إيران التي تسببت في تحول الخليج العربي من بحيرة تجارة وسلام إلى مرتع لتكديس السلاح من كل حدب وصوب، إضافة إلى غزو العراق للكويت الذي ينظر إليه الكثيرون على أنه بداية لانهيار عربي لم نلملم جراحنا منه حتى الآن، وصولاً لما يسمى زورا بـ «الربيع العربي» الذي أدخلنا في دوامة من العنف والفوضى والانحدار السياسي والاقتصادي والسياسي والعلمي والحضاري بشكل عام.

يا الله، لقد سردت في الفقرات السابقة صورة قاتمة بالفعل تجعلنا نحمد الله على أننا لا زلنا على قيد الحياة ونتمتع بصحتنا العقلية والجسدية، أليس ذلك صحيحًا؟

علينا أن ننظر إلى النِّعم التي نحظى بها الآن وكانت مجرد أحلام أو خيال لدى آبائنا وأجدادنا، فنحن الآن نحاول أن نتجنب التخمة الناجمة عن كثرة الأكل، وليس الجوع، وينصحنا الأطباء بعدم الإكثار من الاستحمام حفاظًا على صحتنا من الصابون والعطورات التي تكثر في حماماتنا الرخامية الدافئة، فيما كانت العائلة قديما تستحم جمعيها لمرة واحدة أسبوعيًا أو شهريًا في طبق بأرض الغرفة، ويعاني الكثيرين من أمراض مثل الجرب والجدري، وهي أمراض اختفت حاليًا بسبب التقدم العلمي.

كان إرسال الرسالة يستغرق أشهرًا، وربما يموت الشخص الذي ترسل له رسالة الاطمئنان على صحته قبل أن تصله رسالتك، أما اليوم فبإمكانك استحضار العالم كله إلى جوالك والحديث مع من تشاء وقتما تشاء وأينما تشاء. طبعًا هناك تقنيات حديثة نسمع عنها الآن مثل هولوغرام باتت تستحضر الموتى أيضًا بشكل أو بآخر، حيث يمكن لمحبي السيدة أم كلثوم حضور حفل لها في مسرح وكأنهم ذهبوا إلى فترة الستينات أو السبعينات، أو أحضروا «الست» إلى العام 2021.

أعتقد أن شغلنا الشاغل يجب أن يكون حاليًا ضمان حصول العدد الأكبر من البشر على مستوى حياة لائق، وضمان وصولهم للرفاهية الصحية والمعيشية قدر المستطاع، وتدعيم الطبقة المتوسطة في المجتمع التي تعتبر الحامل الأخلاقي وصمام الأمان لصون القيم العليا والأمن والاستقرار، وعدم السماح للمحرومين والفقراء بالتسرب نحو العنف والتطرف من خلال إدماجهم بالحداثة وجعلهم يحبون الحياة كما نحبها نحن.