الفراغ الذي تتركه إدارة جو بايدن في سوريا ولبنان نتيجة انحدار البلدين في سُلّم أولويّاتها، بات خطيراً على المصالح الأميركية وليس فقط على مصير البلدين المعنيّين وانعكاسه على استقرار المنطقة.

صحيح أن روسيا غير قادرة على ملء الفراغ بمفردها في سوريا، ولذلك تتّجه الى الدول الخليجية العربية للمساعدة في التمويل وإعادة الإعمار من أجل صيانة مصالحها هناك لا سيّما بعد وضوح انحسار الاستعداد الأوروبي للشراكة في انتشال سوريا نتيجة تدهور العلاقة الأوروبية - الروسية في شكل عام. لكن موسكو، من باب عزم الكرملين على تأدية دور الوسيط بين إسرائيل وإيران، وإسرائيل وسوريا، وإسرائيل و"حزب الله"، تصقل لنفسها أدواراً لملء الفراغ الذي يتركه سبات إدارة بايدن التي يبدو وكأنها تتعامل مع سوريا ولبنان كملحقين لتناولها لملف إيران متجاهلة أبعاد وإفرازات الأوضاع المتفجّرة. فلبنان اليوم أصبح مشروع دولة فاشلة يسيطر عليه سلاح "حزب الله" الإيراني الولاء وكذلك فساد الطبقة السياسية المتحكّمة به بلا محاسبة دولية، بل بلا اهتمام.

إسرائيل باتت تلجأ الى روسيا للجم "حزب الله" وكقناة للتفاهم مع إيران وسوريا و"حزب الله" بغض النظر عن تصعيدها عسكرياً داخل سوريا ولفظياً ضد طهران و"حزب الله" في لبنان. موسكو قرّرت تسليم لبنان الى "حزب الله" وطهران باعتبارهما الضامن الوحيد لـ"الاستقرار"، كما تمكّنا من إقناعها. أما واشنطن، فإنها تتغيّب الآن عن التأثير الفعلي لدرجة أن إدارة بايدن تبدو وكأنها هي أيضاً سلّمت مفاتيح لبنان الى طهران في الوقت الذي يتطلّب منها الأمر، منطقياً، أن تعي قيمة هذا البلد تفاوضياً لدى "الحرس الثوري" الإيراني وأن تدرك تداعيات انهياره الى الحضيض على كافة المستويات.

حتى الصين التي لم يكن لبنان أبداً على شاشتها الاستراتيجية باتت اليوم مُستثمِراً في مشروع "الحرس الثوري" الإيراني في لبنان لغايات استراتيجية. انها المموّل الظل غير المباشر عبر صفقات النفط مع طهران بلا سوط العقوبات الأميركية، والمباشر عبر مشاريع هدفها تأمين موقع قدم في المرافئ اللبنانية وغيرها من المواقع الحيوية، فيما إدارة بايدن في سبات. فالصين كانت تخشى عقوبات إدارة دونالد ترامب السابقة لكنها اليوم تُعزّز علاقاتها النفطية مع إيران وتؤمّن لطهران الأموال الطائلة للإنفاق على مشاريع "الحرس الثوري" الإقليمية بالذات في سوريا ولبنان.

أوروبا أيضاً في سبات لأنها بدورها قرّرت الاستغناء عن "التورّط" في سوريا وتركت ملف لبنان لفرنسا التي تُحسن التورّط عشوائياً، وتتّقن فن اكتساب سمعة اللاجدّيّة، وبذلك عمّقت انزلاق لبنان في ورطته المدهشة.

إدارة ترامب كانت جدّية ونشطة في ملف لبنان عبر زيارات متكرّرة للمسؤولين في وزارة الخارجية ومن خلال فرض العقوبات. إدارة بايدن غائبة ونائمة ولربما تكون جاهلة لتداعيات ما يحدث في هذا البلد الصغير باعتباره في رأيها هامشياً في أولوياتها.

على صعيد التحقيق في تفجير مرفأ بيروت، تبدو إدارة بايدن في حال استرخاء مع أن ما حدث يتنافى مع مزاعمها بأنها لن تتراخى مع مسائل الجريمة ضد الإنسانية أو انتهاك حقوق الإنسان. كلاهما واضح جليّاً في استهتار مُرعب بمطالب أهالي ضحايا الانفجار وبتشريد أهالي بيروت في مؤامرة رهيبة لدفن التحقيق في الانفجار – مؤامرة تتداخل فيها دول وشركات سلاح وشركات تأمين محلية وعالمية.

في وسع إدارة بايدن أن تصدر التعليمات لمكتب التحقيق الفدرالي FBI أن يقدّم الآن نتيجة التحقيق الذي أجراه في انفجار مرفأ بيروت لأن التحقيق بات جاهزاً، ولأن هذا التحقيق هو أحد أهم وسائل تدويل ما يحدث في لبنان. وما يحدث لا يقل عن جريمة ضد الإنسانية تسكت عليها حكومات وشركات - جريمة تخزين المواد المتفجّرة بين المدنيين اللبنانيين واستخدام هذه المواد لصنع البراميل المتفجّرة ضد المدنيين السوريين.

هناك صرخة تتوسّل تدويل المأساة اللبنانية ما زالت تقع على آذان صمّاء لأن إدارة بايدن لم تأخذ المبادرة لسماع تلك الصرخة أو للاستماع الى ما وراءها. فليس مهمّاً، بصراحة، صمت الأوروبيين أو قرار الروس والصينيين أن هذه صرخة سياسية ضد حليفيهما الإيراني والسوري في لبنان. المهم هو موقف واشنطن. إدارة بايدن تعطي الانطباع أنها هي أيضاً غير مهتمة بالتدويل الذي ينقسم حوله اللبنانيون بين موالٍ لحياد لبنان وبين مصرّ على سيطرة إيران عليه.

الحياد، في تعريف "حزب الله" وعلى لسان الأمين العام للحزب حسن نصرالله بات تهمة تخوين جاهزة للتفجير في الشارع التابع له والذي يتأهّب للتعبئة ولمواجهة المتظاهرين لقمعهم وإلغائهم بقرار وبخطة تم اعتمادها. ففي كلمته هذا الأسبوع، استهدف الأمين العام لـ"حزب الله" الصرح البطريركي وخوّن طروحات البطريرك مار بشارة بطرس الراعي التي أطلقت فكرة الحياد، معتبراً أن "المطلوب من الحياد في لبنان هو أن نكون جزءاً من المحور الأميركي - الإسرائيلي"، داعياً الى التصدّي للمؤامرة الأميركية عبر المعونات البترولية من إيران والتوجّه شرقاً الى الصين وروسيا.

لم يخفِ نصرالله أجندة "حزب الله" وإيران إذ أصرّ على إحباط شروط صندوق النقد الدولي IMF لمساعدة لبنان على الخروج من ورطته المصيرية. لوّح بعزمه على إطلاق عنان جمهوره ضد حكومة اختصاصيين في اعترافٍ واضح أن لجم أو إطلاق شارعه هو أداة حادة جاهزة للتفعيل. هدّد الجيش والقوى الأمنية معترضاً على طريقة تعاملهما مع المُحتجّين بتعاطف ومؤكداً أن احتمال فرض "حزب الله" فتح الطرق بالقوة العسكرية في وجه المتظاهرين الذين اتهمهم بدفع الأمور نحو "حرب أهلية لا تحتاج الى صواريخ دقيقة إنما الى مجرد كلاشينكات". ثم كرّر تهديدات "عزل" حاكم المصرف المركزي رياض سلامة ما لم يعمل على خفض سعر الدولار.

الأهم أن الأمين العام لـ"حزب الله" كشف عن خطة طوارئ "لا يمكن تنفيذها من داخل مؤسسات الدولة" ما يُنذر بإمكان استيلاء الحزب على كامل مفاصل الدولة والقرار. وهذا ما أبلغه وفد "حزب الله" الى المسؤولين الروس في زيارته إلى موسكو حيث قدّم الوفد الضمانات أن الحزب قادر وجاهز لضبط الأوضاع المتدهورة في لبنان، خارج الدولة. كلام نصرالله عن وجود "خيارات كبيرة ومهمّة لدينا، ولكن تنفيذها عبر الدولة والقانون غير متاح، سنلجأ الى تنفيذها لننقذ بلدنا وشعبنا" كلام خطير للغاية. موسكو هزّت رأسها بإشارة أخذ علم بما سمعت بلا احتجاج عليه، فهي بدورها توافق "حزب الله" وإيران رأيهما أنهما وحدهما قادران على السيطرة وإبقاء لبنان حيّاً، وأنه لا توجد أية قوى سياسية أخرى قادرة على هذه المهمّة.

الفارق بين المواقف الروسية والمواقف الأميركية نحو استيلاء إيران و"حزب الله" كاملاً على لبنان هو أن موسكو تدعم أهداف حليفين لها فيما واشنطن تعتبر أحدهما "إرهابياً" والآخر راعياً ومموّلاً له لكنه مهم لها في إطار المفاوضات النووية والعلاقات الثنائية. كلاهما تهمّه إسرائيل بدرجة كبيرة في المعادلة اللبنانية- واشنطن في إطار علاقة التحالف التقليدية معها، وموسكو لجهة العلاقة المتينة الجديدة لها مع إسرائيل وقيامها بتأدية دور الوسيط مع إيران وأتباعها.

تأزّم العلاقة الشخصية بين الرئيسين جو بايدن وفلاديمير بوتين في أعقاب تبادل الشتائم ووصف بايدن لبوتين بـ"القاتل" سينعكس على العلاقات الأميركية - الروسية - الأوروبية وكذلك على ملفات السياسات الخارجية الممتدة من القرم الى طهران الى بلدٍ هامشي لهما كلبنان. فموسكو جاهزة للاستثمار في "الحرس الثوري" ومشاريعه الإقليمية وهي تعي تماماً قيمة لبنان في هذه المشاريع. ثم إنها ستلتقي أكثر الآن مع التصعيد الإيراني في الملف النووي القائم على دفع الأمور الى حافة الهاوية مع الولايات المتحدة في لعبة خطرة قوامها دفع إدارة بايدن والقيادات الأوروبية الى التراجع والخضوع أمامهما.

فريق بايدن هو الذي سيقرّر كيف سيتعامل مع الاستفزازات الإيرانية أو الانتقامات الروسية. جو بايدن ليس دونالد ترامب. ترامب تصرّف كما يشاء بحرية وباعتباطية أحياناً، لكن بايدن ليس رجلاً طليقاً كما ترامب. لذلك من الصعب قراءة قرارات فريقٍ أتى الى البيت الأبيض لكنه ليس جاهزاً، عمليّاً وتوظيفياً وسياسياً واستراتيجياً، لتلقّي التحديات الكبرى منها والصغرى.

بحسب المصادر، ينوي "الحرس الثوري" التصعيد ميدانياً في أكثر من مكان وذلك في إطار الدفع نحو فوزه في الانتخابات الإيرانية وتهديد العالم بهذا الفوز الذي سيضع "الحرس الثوري" علناً ورسمياً في سدّة الحكم، وليس من وراء الكواليس كما هو الحال الآن. والسؤال المطروح هو: هل ما هدّد به الأمين العام لـ"حزب الله" لجهة خطة طوارئ خارج الدولة اللبنانية هو مشروع "الحرس الثوري" كجزء من الانتخابات الإيرانية؟

وفد "حزب الله" الى موسكو أكد لوزير الخارجية سيرغي لافروف ولكل من اجتمع به في روسيا الخطوط العريضة التالية: أولاً، إن إيران مستمرة في سياساتها نحو روسيا "وكلاهما يحتاج الآخر" - حسب تعبير أحد المصادر - وأن إيران باقية في سوريا "ولن تغادرها على الإطلاق" بغض النظر إن بقي بشار الأسد رئيساً أم لا. ثانياً، إن على روسيا ألا تُضعِف إيران لأن إيران الضعيفة ليست في المصلحة الروسية أينما كان، وأن "حزب الله" هو شريك لروسيا في سوريا. ثالثاً، إن لدى "حزب الله" "خطة للبنان" تبدأ من إزالة المتظاهرين من الشارع و"تحويل التظاهرات الى الاتجاه الصحيح"، كما نقلت االمصادر المطلعة، وذلك في إطار عزم "حزب الله" على السيطرة على البلد لانتشاله من "أزمة أعمق تؤدي الى ظروف غير مُتوقَّعة وانفجار داخلي". رابعاً، إن لبنان بات له الأولوية لدى طهران وأن سوريا تحتل الموقع الثاني في الأولويات الإيرانية الآن، وعليه، يجب توقّع تطورات تتماشى مع هذا التغيير. خامساً، إن السيطرة على الأوضاع في لبنان ستتطلب أشهراً وليس شهراً واحداً، مع التأكيد أن "حزب الله" وإيران قادران وعازمان على ضبط كامل للأوضاع وأخذ الأمور في أياديهما بصورة تامة لأنهما في حاجة الى لبنان ولأن لا استغناء عنه في مشاريعهما. وسادساً، اعتزام "حزب الله" زيادة تواجده العسكري في مختلف أنحاء لبنان بما في ذلك في الجنوب وذلك في ضوء توقّع مواجهة عسكرية آتية مع إسرائيل.

ما طلبته الدبلوماسية الروسية من وفد "حزب الله" هو، بحسب المصادر المطلعة، "عدم استفزاز إسرائيل" خوفاً من أن يؤدي ذلك الى مواجهة كبرى في الشرق الأوسط. الرد أتى من طهران بتصريحات عسكرية نارية عالية المستوى حول جاهزية إيران لتدمير "الكيان الصهيوني". إنما ليس واضحاً بعد إن كانت هذه المواقف من أجل الاستهلاك المحلي الانتخابي الصلة، أو إن كان ضمن "الخطة" التي تحدّث عنها الأمين العام لـ"حزب الله" ولمّح اليها وفد الحزب في محادثاته مع روسيا مما قد ينسف ذلك "الجسر" الذي تريد موسكو أن يشكّل امتدادها بين إسرائيل وإيران ويلقى مباركة أميركية صامتة. فخلاصة رسائل "الحرس الثوري" الإيراني و"حزب الله" اللبناني هي أنهما في مقعد القيادة لملءٍ مدروسٍ للفراغ كما لإملاء هوية ومستقبل لبنان.