تصريحات عديدة تحذر من اختفاء سوريا (الدولة)، ومن خروجها من التاريخ والجغرافيا، ومن تمزقها إلى كيانات عرقية أو طائفية أو مناطق نفوذ دولية، فالطامعون بها كثر، ومن حضر قسمتها سيقتسم، لاسيما بعد أن غادرها نصف شعبها قسراً باحثاً عن الأمان، وبقي نصفه الآخر فيواجه ظروفاً غير إنسانية، ويبحث عن أدنى متطلبات العيش، وقد استباحت البلاد قوى إقليمية، وسيطرت جيوش وميليشيات متصارعة على امتلاك سوريا، وتم نهب ثرواتها، والقبض على قرارها ومصيرها.
ولاشيء في الأفق المنظور ينبئ بوجود حل سياسي جاد وحقيقي يخرج سوريا من هذا المستنقع، وقد أصبحت القرارات الدولية قشة يتعلق بها الغارقون، وسراباً من ماء يتراءى في صحراء قاحلة، وقد يبقى هذا الحال المفجع سنين طويلة، كما بقيت قضية فلسطين معلقة منذ عقود.
وأرجو ألا يفهم القارئ من حديثي أنني يائس، فأنا من المؤمنين بأن الليالي حبالى تلدن كل عجيبة، وما بين طرفة عين وانتباهتها، يغير الله من حال إلى حالِ، لكنني أتحدث عن الواقع الراهن، وأجد المجتمع الدولي لايملك إرادة جادة في تنفيذ القرار 2254 ولو أنه يمتلكها لتم تنفيذ هذا القرار الذي حظي بإجماع دولي يوم صدوره، ولاسيما أن روسيا التي سيطرت على الموقف العسكري هي التي صاغت القرار، وما تزال تتمسك به ولاتنكره، وإن كانت رؤيتها في تفسيره تختلف عن رؤى الآخرين، وقد قبلت المعارضة السورية بهذا القرار وبأمثاله من قرارات مجلس الأمن، وباتت هذه القرارات سلاحها الوحيد للحفاظ على سوريا، وقد أصبحت القضية السورية اليوم أكبر بكثير من الصراع بين السلطة والمعارضة، فالفريقان منهكان متداعيان، وهما يريان الأرض تسحب من تحت أقدامهما، وأنهما باتا في فراغ.
فالسلطة السورية ممثلة في الحكومة تواجه ظروفاً حياتية للشعب لاتملك استجابة لها، وهي أكبر من طاقتها، وأخطر وأشد من طاقة الشعب على التحمل، كما أن المعارضة تواجه تمزقاً وشتاتاً هو نتاج ما حولها من صراعات دولية وإقليمية، ونتاج حالة التخلي الدولية عن معونتها للوصول إلى حل سياسي وهو دون أهدافها المعلنة ولكنه في إطار المتاح يمكن أن يحقق تسوية تضمن انتهاء الظلم، ويؤسس لبناء عقد اجتماعي جديد على أسس المواطنة، ويوفر ظروف عودة آمنة للمشردين والنازحين واللاجئين، لبناء سوريا الجديدة.القضية اليوم هي الخوف الخطير من اختفاء سوريا (الدولة) عبر تقاسم النفوذ الذي هو مجرد ستارة تخفي التقسيم الحاصل، ونداؤنا الصارخ للحفاظ على تراب سوريا ووحدة شعبها، وعلى حماية حدودها ومطالبتنا بخروج كل الجيوش والقوى الأجنبية من بلادنا، يتلاقى حوله كل السوريين (معارضة وموالاة ورماديين)، وهذا يستدعي عملاً وطنياً خالصاً، ينقذ سوريا من الانهيار، وعلى صعيد وطني أجد القرار بيد السوريين جميعاً قبل فوات الأوان للسمو فوق كل الاعتبارات، والارتقاء فوق الايديولوجيات والنعرات العرقية والاختلافات المذهبية، فإن فقدنا الوطن وفقدنا السيادة فستصبح هذه الصراعات المقيتة في فضاء إلكتروني نوعاً من الأوهام والأحقاد. والمسؤولية الكبرى تقع على عاتق الأطراف التي لم تنفذ إلى اليوم ما سمته القرارات الدولية حسن نوايا، وجعلته فوق التفاوض مثل الكف عن ملاحقة المعارضين، والتفريق بين المعارض السياسي وصاحب الرأي المختلف والرافض للحل العسكري، وبين الإرهابي الطارئ على مجتمعنا، والقادم من وراء الحدود لتدمير المجتمع السوري.
لابد من مؤتمر سوري وطني جامع برعاية عربية ودولية يتحمل مسؤولية إنقاذ سوريا وفقاً للقرارات الدولية، ولن تحل المشكلة بحوارات سفسطائية حول الدستور بين وفد تدعمه الحكومة دون أن يمثلها، وبين وفد معارضة متعارضة، ولن ينهي القضية إعلان دول شتى أنها لن تعترف بشرعية الانتخابات الرئاسية القادمة، حيث سيبقى الشعب السوري في المنافي والشتات، وستبقى سوريا في الطريق إلى مزيد من الانهيار، وتبقى السيادة السورية مستباحة. وأطالب روسيا بمراجعة عادلة لمواقفها، وبيدها نسبة كبيرة من القدرة على إيجاد حل، ولابد من كف يد القوى الطامعة عن العبث بمصير سوريا والأمة العربية، ونأمل بأن ينهض الموقف العربي بقوة لمنع اختفاء سوريا. *وزير الثقافة السوري السابق
التعليقات