يأتي اعتراف الرئيس الأمريكي جو بايدن بالصفة الإبادية للمجازر ضد أرمن الأناضول إبان الحرب العالمية الأولى، في السنوات الأخيرة من العصر العثماني، ليوجد نوعا من «الإجماع الغربي» المحقّق في هذا الشأن، والذي استُجمِعَت عناصرُه في العقدين الماضيين، بعد مكابرة طويلة من حكومات الغرب حيال القضية الأرمنية، بالتواشج مع هيمنة مزمنة أخذت تتراجع مع الوقت لمنحى إنكار الإبادة، أو إنكار صفة الإبادة بالنسبة إلى هذه المجازر.
وإذا كانت الكلمات التي اختارها بايدن للإعتراف بالإبادة يُرادُ منها تخليص ما للذاكرة، والإنتقال رأساً من الذاكرة إلى الاستشراف المستقبلي، دون التوقف عند التداعيات الموجبة لهكذا اعتراف بالنسبة إلى الحاضر، فإنّ نقلة كبيرة حدثت من زمن إلى آخر، ويتوّجها هذا الإعتراف. هذا بالنسبة إلى الخلفية الثقافية بالدرجة الأولى، للعلاقات بين المجموعة الغربية، وبين تركيا، شريكة هذه المجموعة في التحالف العسكري.
إذ كان زمن حرصت فيه واشنطن ولندن نهاية الأربعينيات من القرن الماضي على ضمّ كل من الجارتين اللدودتين – تركيا واليونان – في وقت واحد إلى «الغرب الاستراتيجي» أي إلى «حلف شمالي الأطلسي». واندرج ذلك في سياق تطبيقي لـ«عقيدة ترومان» في احتواء وتطويق الإتحاد السوفياتي. وترتّب على ذلك لاحقاً دعم العسكريتاريا العلمانية، المستظلة ببيان «النطق» لمصطفى كمال، حتى وهي تعلّق حبل المشنقة حول عنق رئيس منتخب ديموقراطياً، له نفحة دينية محافظة و«أطلسيّ» تماماً، مثل عدنان مندريس. وقبل أن يُجاز شنق مندريس أمريكياً، كان مستحبّاً أن تعيد تركيا اكتشاف صفتها «الإسلامية» في إتجاه محدّد، هو إتجاه معاداة الشيوعية. الأمر الذي قضى بانخراطها في حلف بغداد (السنتو) الى جانب العراق الهاشمي، وإيران الشاه، وباكستان.
ومثلما جازت التضحية بالديمقراطية الداخلية في تركيا، وبالوجود اليوناني الذي بقي أساسياً في اسطنبول حتى الخمسينيات، وبوحدة قبرص، من أجل «أولويات» أمريكا والغرب في الحرب الباردة، فقد جرى تجاهل القضية الأرمنية لنفس الغرض، وجرى التعامل معها كمجرّد شعار يرفعه «الجيش السرّي الأرمني» (آسالا) لتنفيذ اغتيالات وأعمال إرهابية.
أمّنت الحرب الباردة المناخ التشجيعي للمنحى الإنكاريّ للإبادة الأرمنيّة في الغرب، سواء على مستوى الحكومات أو على مستوى المؤسسات البحثية والمؤرخين، حتى إذا زال الإتحاد السوفياتي من الوجود صار إنكاريّو إبادة الأرمن، وفي الطليعة منهم المؤرخ برنارد لويس، في خانة الإتهام.
فالتحوّل هنا يرتبط بانتهاء ظروف الحرب الباردة، أكثر مما يرتبط بتوجهات تركيا في مرحلة حكم رجب طيب أردوغان وحزب «العدالة والتنمية» على أهمية التوترات الثقافية بين حكومات الغرب وبين هذه التجربة، وبخاصة بعد إقفال الباب بوجه مساعي تركيا للانضمام إلى الإتحاد الأوروبي.
وفي تركيا، فقد ظهر «الضمير القومي العلماني» تاريخياً، وعلى امتداد القرن الماضي، بمظهر أكثر تشدّداً من «الضمير الإسلاميّ الشعبوي» حيال المسألة الأرمنية، لا سيما وأن الضمير الإسلاموي «حاقد» على جماعة «الإتحاد والترقي» المنقلبين على السلطان عبد الحميد، والمتسببين بإدخال السلطنة في الحرب المدمّرة، وبالنتيجة، بالمجازر ضد الأرمن.
لكن «الضمير الإسلامي الشعبوي» في تركيا، أُعيدَ تشكّله في التسعينيات على محك إبادة جديدة، عنينا أعمال التطهير العرقي – الديني ضدّ مسلمي البوسنة، التي استحضرت ذاكرة أعمال الإبادة والترحيل ضد الأقوام المسلمة في القرم وشمال القوقاز وعموم البلقان، على أيدي الروس والأمم البلقانية المسيحية الجديدة، في زمن تراجع السلطنة العثمانية، وذاكرة «المهاجرين» المنتقلين قسراً من هذه الأمصار الضائعة إلى الأناضول وما بقي للسلطنة من ولايات. وكانت إدارة عملية استقبال وتوزيع هؤلاء المهاجرين الشغل الشاغل للسلطنة في مراحلها الأخيرة، ولا يُفهم ازدياد اهتمام السلطان بابراز صفته كخليفة، وتبنيه الدعوة إلى «التضامن الأممي» بين المسلمين، أي «الجامعة الإسلامية» إلا في هذا الإطار. كذلك تصاعد التناقضات بين الأرمن في الأناضول وبين السلطنة، لا يفهم فقط في إطار الصراع على الأرض بين الأرمن والكرد، من دون المشكلة التي ولّدها توطين جزء من هؤلاء «المهاجرين» (بالمدلول الديني الرمزي، والمهجرين بالمدلول الوضعي) القادمين من القوقاز والبلقان في الأناضول نفسه.

يأتي اعتراف الرئيس الأمريكي جو بايدن بالصفة الإبادية للمجازر ضد أرمن الأناضول إبان الحرب العالمية الأولى، في السنوات الأخيرة من العصر العثماني، ليوجد نوعا من «الإجماع الغربي» المحقّق في هذا الشأن

في حركة انتقالها من إمبراطورية متعددة إثنياً الى دولة قومية، مرّت تركيا بهذه المفارقة الانتقالية: صيرورتها «دولة مهاجرين». دولة استقبال ضحايا الطرد والترحيل من المسلمين حولها.
لقد دفعت مأساة مسلمي البوسنة، ومن قبلها تهجير مسلمي بلغاريا أواخر الثمانينيات، هذا الضمير الشعبوي الإسلامي إلى التمسّك أكثر بذاكرة هذه» المجزرة الممتدة» ضد مسلمي القرم والقوقاز والبلقان، على مدار القرن التاسع عشر وأوّل العشرين. هذا في حين كان سعيٌ من مصطفى كمال للقطيعة مع ذاكرة هذه «المجزرة الممتدة». انما في مقابل تمجيد تركيا المولودة في حرب الاستقلال بعد هزيمة السلطنة، وعدم تقبّل ان تُخدَش سردية حرب الاستقلال 1919 – 1922 وولادة تركيا القومية الجمهورية بأي شكل كان. ولا أن يوجد أي مدخل سابق عليها يسمح بخدشها، كمثل تحميل الأمة وزر إبادة.
وهذا ما يفسّر كيف تراجع كمال من وصف ما لحق بالأرمن بأنه «عمل يندّ له الجبين» عام 1920 الى الاستبعاد الكلي لأي اعتراف بأي حق للأرمن عند بلاده.
وبالنتيجة، تقف كل من السردية «العلمانية» وتلك «الإسلامية» في تركيا اليوم، حائلا دون أن تنفتح أي منهما على مراجعة معمّقة للمسألة الأرمنية. العلمانية، لأنها لا تريد تقبّل أي تشوّه يصيب ملحمة ولادة تركيا الحديثة في حرب الاستقلال، والإسلامية، لأنها غير مستعدة للاعتراف بابادة الأرمن، طالما لم يجر الاعتراف بسلسلة الإبادات ضد المسلمين في القوقاز والبلقان، من الشركس والتتار حتى مسلمي البوسنة.
والخطير في هذا المجال هو المسعى للتفتيش عن «جذر للشرّ مشترك» بين علمانيي وإسلاميي تركيا، وهو ما قام به، نوعاً ما، هانس لوكاس كيزر في سيرته (المرجعية رغم ذلك) عن ناظر الداخلية وقت الابادة طلعت باشا (ثم الصدر الأعظم) فلم يكتف بتقديمه على أنه «أب تركيا الحديثة، ومهندس الإبادة» كما في عنوان كتابه 2018، بل اعتبره المؤسس للترابط بين القومي وبين الديني في الهوية التركية. ولم يكتف كيزر بهذا، بل تحدّث عن ان طلعت كان داعية «قومية سنية» (كذا!).
الشيء نفسه بالنسبة إلى التأريخ للابادة. فالأعوام الماضية شهدت اصدارين هامين، في اتجاهين متناقضين.
أحدهما، للإسرائيليين بني موريس ودرور زئيفي. يتحدث عن «ثلاثون عاماً من إبادة تركيا للاقليات المسيحية فيها» 2019، بما يجعل من إبادة هذه الأقليّات سياسة قصدية مثابرة وممنهجة، رغم اختلاف العهود، من عبد الحميد الى الاتحاديين الى كمال، فتكون نتيجة ذلك تصوير تركيا الحديثة على أنها دولة شريرة من حيث تكوينها.
أما الكتاب الثاني، فتاريخ الإبادة الأرمنية 2015، للمؤرخ الأمريكي من أصل أرمني رونالد غريغور سوني. ويدحض فيه سرديتين. تلك التي تريد تحويل الإبادة الى نيّة صميمة ظلت محتبسة في الوجدان التركي لقرون، الى ان سمحت لها ظروف الحرب الكبرى بتحقيق مرادها. وتلك التي لا تريد أن ترى فيما حصل سوى صراع بين حركتين قوميتين لهما الشرعية نفسها سوى أن أحدهما غلبت الأخرى (برنارد لويس). بخلافهما، أعاد هذا المؤرّخ الفذّ الإبادة الى سياقها: القرار الكارثي لحكومة الإتحاد والترقي بدخول الحرب الى جانب ألمانيا (المتواطئة في موضوع الإبادة الأرمنية) والنمسا، وتحوّل الفوبيا مما يمكن أن يحيكه الأرمن في عزّ الحرب إلى دافع أساسي للاستئصال، دون شطب تدهور العلاقة بين الاتحاد والترقي وبين المنظمات الأرمنية من الحسبان، ودون القفز كذلك الأمر فوق وقائع التعاون لسنوات بين الفريقين.