السلام مطلب جميع الدول العربية، فالمنطقة أنهكتها الحروب، ولكن مفتاح هذا السلام يبدأ من فكرة التعايش والسلام المطلوب تحقيقه فوق نقطة الخلاف وليس في نقاط بعيدة عنها، فحل القضية الفلسطينية يبدأ من القدس وليس من عواصم الدول المحيطة..

الأزمة التي صنعتها إسرائيل عبر محاولاتها إخلاء أسر فلسطينية في حي الشيخ جراح في القدس الشرقية ولّدت أزمة كبرى، فحجم التصعيد مقلق للمنطقة بأكملها وتطور الموقف دون التوصل إلى حلول مباشرة للتهدئة والبدء في حوارات سياسية سيؤدي إلى تفاقم الأزمة سياسيا وعربيا، وقد تصل القضية إلى منطقة يصعب التراجع عنها، وللتوضيح فإن إسرائيل بعد العام 1967م عندما احتلت القدس أصبحت تشجع الجمعيات اليهودية على تأجيج فكرة أن المنازل في القدس الشرقية هي لسكان يهود، وصدر قانون يتيح للمحاكم الإسرائيلية قبول دعاوى بامتلاك البيوت الفلسطينية على اعتبار أن سكانها الأصليين يهود هُجروا منها في الماضي، وكان العام 1972م حاسما حيث شهد تحركات لجمعيات ومنظمات يهودية تدعى أن المنازل في حي الشيخ جراح هي لملاك يهود في الأساس وعلى الفلسطينيين الخروج منها.

هناك أكثر من 200 ألف يهودي يسكنون في القدس يقيمون في عقارات كان يملكها فلسطينيون ولكنهم هُجروا منها بالقوة إما بعد العام 1967م أو تم طردهم من قبل المحاكم الإسرائيلية التي كانت وما زالت تدعم هذا النهج من الطرد للسكان الأصليين من الفلسطينيين عبر قرارات هيئة الأراضي الإسرائيلية، إذن القضية تدور حول فكرة استيطانية وهي تقع في الاتجاه المعاكس لفكرة السلام التي ينشدها الجميع، ومن الواضح تاريخيا أنه يصعب ابتلاع فلسطين الأرض والشعب لمجرد طرح فكرة سلام هشة لا تحقق للشعب الفلسطيني حقوقه، صحيح أن إسرائيل حققت إنجازات في عمليات التطبيع سياسيا ولكن من المستحيل أن تقبل الشعوب العربية والإسلامية فكرة سلام مجانية لا تحقق لأهل الأرض دولة مستقلة.

هذه الأزمة كما هي مثيلاتها عبر التاريخ التي تحدث في فلسطين تثير الشحن العاطفي الشعبي العربي والإسلامي وتدفع الدول الإقليمية والدولية ثمن محاولاتها البحث عن علاقات أو معاهدات ثنائية مع الجانب الإسرائيلي الذي يبدو أنه يرغب في أن يفرض منهجه في عمليات الاستيطان دون الالتفات لما يحدث في المنطقة أو القرارت الدولية التي تؤكد الحق الفلسطيني، الحقيقة المهمة هي أن القضية الفلسطينية تصاعدت مكانتها في أولوية الدول العربية وخاصة عندما تقاربت بعض الدول العربية مع إسرائيل قبل فترة، وأصبحت بعض الدول العربية مجبرة أمام شعوبها للتعبير عن موقف مناسب لصالح فلسطين بغض النظر عن الالتزامات الدبلوماسية، فالشعوب العربية والإسلامية ترى أن القضية الفلسطينية لا تحسمها علاقات دبلوماسية.

هذه التجربة التي عاشتها بعض الدول العربية في التطبيع مع إسرائيل جذبت هذه الدول إلى مواقع كانت بعيدة عنها في رؤيتها للكيفية التي تعبر بها عن أي مشكلة بين إسرائيل والفلسطينيين في الماضي، بمعنى دقيق عمليات التطبيع لن تكون معزولة عن أي أزمة تحدث في فلسطين، بل ستكون مسؤولية الدول أمام شعوبها أكبر وسيكون الضغط مضاعفاً، وهذا ما جعل الدول العربية المتزنة تربط أي شكل من أشكال السلام مع إسرائيل بإيجاد حل جذري للقضية الفلسطينية وفقاً للقرارات الدولية وخاصة مبادرة السلام العربية.

الدول العربية ذات الدور الفاعل والرمزية العالية في الشأن العربي الإسرائيلي كشفت لها هذه الأزمة ضرورة التوزان والتأني عند التقدم لصالح عمليات السلام غير المدفوعة الثمن من الجانب الإسرائيلي، وقد يكون من السهل على دول أقل رمزية أن تساهم في عمليات التطبيع، ولكن ذلك لن ينطبق على دول تظل تحت المطالبة العربية والإسلامية لكي تقف موقفا صلباً ومهما تجاه واحدة من أعقد القضايا في العالم، وبالنظر إلى اللاعب الأكبر تأثيرا في هذه القضية، الولايات المتحدة الأميركية فإن هذه الأزمة مختلفة عن سابقاتها وخاصة مع توجه الرئيس بادين الذي نقل عنه أحد أصدقائه، "أنه يفكر في إنهاء الحروب" في منطقة الشرق الأوسط (وهذا يعني الضغط بقوة على دول المنطقة لتكون وسطاء لتحقيق السلام، وتقديم تنازلات، وتوفير حوافز للخصوم لإنهاء الصراعات).

هذه الأزمة لا بد وأنها ستغير الكثير من المفاهيم حول الصراع الفلسطيني والإسرائيلي وخاصة مع تنامي الرغبة الأميركية بفرض حالة السلام في المنطقة، والتي لن تنتهي إلا بوصول الحق الفلسطيني إلى نقطة يرضى عنها الشعب الفلسطيني بمكوناته السياسية والشعبية، السلام مطلب جميع الدول العربية، فالمنطقة أنهكتها الحروب ولكن مفتاح هذا السلام يبدأ من فكرة التعايش والسلام المطلوب تحقيقه فوق نقطة الخلاف وليس في نقاط بعيدة عنها، فحل القضية الفلسطينية يبدأ من القدس وليس من عواصم الدول المحيطة، فالمنطقة التي أنهكتها الحروب وعانت بما فيه الكفاية تدرك أنه لن تتوقف هذه الحروب إلا بسلام عادل يؤمّن للجميع.